السبت , 15 فبراير 2025 - 17 شعبان 1446 هـ 9:38 صباحاً
يُستخدم مفهوم "الوعي العالي" ممن يصفون أنفسهم بالروحانيين؛ لوصف الحالات الروحية العميقة التي يتعذّر الوصول إليها بالعقل، فجميع حكماء الهندوس، ورهبان المسيح، ومتدينو البوذية يتحدثون عن بلوغ لحظة "الوعي العالي" هذه عبر التأمل، والإنشاد، والصيام، وزيارة الأماكن المقدسة، ولكن المؤسف أن الطريقة التي يتناولون معها فكرة "الوعي العالي" تهمل كثيرًا الأحداث الحياتية، فتبدو غامضة وغريبة، ركيكة وغير مقنعة، بل ربما تكون مزعجة أيضًا.
ما الذي يعينه هؤلاء الروحانيون حقًا؟
نحن نتعاطف كثيرًا مع بعض خيباتنا التي تأخذنا بعيدًا عن طبيعتها إلى الغامض والمبهم. إن فكرة "الوعي العالي" تبدو شيئًا مثيرًا، ولا تربطها علاقة بالقيم الروحية، ويمكن أن نعرفها بمفاهيم العقل والواقع.
يعيش البشر حياتهم في حالة "الوعي المنخفض" فأكثر ما يقلقهم أنفسهم، وحياتهم، ونجاحاتهم المحدودة، إنّ مكاسب الحياة اليومية وتصرفاتهم ورغباتهم السطحية المنطوية على تبريراتهم الشخصية، كلها أدلة واضحة على "الوعي المنخفض"
يتحدث علماء الأعصاب عن الجزء السفلي من الدماغ، ويصفونه بـ: "العقل الزاحف"، فعندما نكون تحت تأثيره؛ نرد الصفعة فورًا أثناء تلقيها، ونلقي اللوم على الآخرين، ونحتقر أي أسئلة غير مهمة ليست لنا، ونعجز عن تداعي واستحضار الأفكار، ونعجب كثيرًا بصورنا المغرية، من نحن؟ وما ذا نريد؟
هناك أوقات نادرة، حينما نكون في راحة وهدوء، ربما في وقت متأخر من الليل أو في صباح باكر، وتحديدًا عندما لا تكون هناك مخاوف أو مسؤوليات على عاتقنا، يمكننا بلوغ مرحلة "العقل العالي"، الذي يسميه علماء الأعصاب: "القشرة المخية الحديثة"، فهو مقر الخيال، والعاطفة، والقرارات النزيهة، فنحيد بعض الشيء عن غرورنا، ونوسّع أفق أفكارنا إلى نظرة عامة وبعيدة عن التحيّز، متحرّرين من اهتماماتنا الاعتيادية، وقلقنا، وتبرياتنا الشخصية، وعجزنا.
في تلك الحالات، ينصرف العقل بعيدًا عن رغباته ونزعاته الخاصة، ويبدأ يفكر في الآخرين بوعي تام، من غير انتقادهم أو مهاجمتهم، ونكون منصفين في تصوّر تصرفاتهم الآتية من أتعابهم الناجمة عن عقولهم البدائية، والتي لا يمكنهم مصارحتنا بها. إن مزاجاتهم المتقلبة أو قساوتهم التي نلحظها عليهم بعض الأوقات، ليست إلا حالة من الأذى الذي يواجهونه وليس ذلك الشر الذي ينمّي القدرة على تفسير تصرفات الآخرين من مشاكلهم، بصرف النظر عن مدى تأثيرها علينا.
إن طريقة الاستجابة الجيدة للإنسان، ليست الخوف، التشاؤم، أو العنف، إنه الحب دائمًا عندما نستطيع أن نتعامل به.
يبدو العالم في بعض الأوقات مختلف تمامًا، أشبه بمكان للمعاناة وللسعي الضال، مليء بالناس الذين يجاهدون لإثبات أنفسهم بمهاجمة الآخرين. ولكنه يبدو في المقابل أيضًا، أشبه بمكان للأشواق، والحنين، والجمال، والإحساس بالآخرين، وأن التعاطي المناسب معه، التعاطف والمحبة.
حينما يشعر المرء أن حياته قليلة الأهمية، يتصوّر أن ليس لها مستقرًا، وحينما يزيح مصالحه الخاصة قليلًا، يستغرق بخياله في حياةٍ عابرة حوله، كالأشجار، والهواء، والفراشات، والغيوم، وأمواج البحر.
إن مثل هذه الأفكار، توضّح لنا أن أحوالنا الشخصية لا تعني شيئًا، وما نملكه لا يهم حقيقة، وجميع مطالباتنا ليست ضرورية، وعندما يواجهنا بعض الناس في مثل هذه الحالات، تذهلهم أحوالنا المتغيرة، وتعاطفنا معهم.
لا تدوم حالات "الوعي العالي" طويلًا بطبيعتها، وليس ضروريًا أن تكون كذلك، لأنها لا تتماشى جيدًا مع المهام الحياتية المهمة التي يجب تأديتها. ولكن الاستفادة منها عندما تباغتنا مهمة، فقد نجني منها رؤية سديدة ليوم ننشدها فيه. إن مغزى "الوعي العالي" ببساطة هو الانتصار على العقل البدائي، الذي لا يمكنه أن يتصّور أي من تلك الاحتمالات الواردة، التي تقودنا إلى أن نعي تمامًا بعض الفضائل التي يمنحها "العقل العالي"، ومن ثمّ نبذل ما بوسعنا لأن تكون حياتنا قليلة التخبّط، وغير مغطّاة بألغاز لا ضرورة لها.