السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:23 صباحاً
تخيل لو أن قوة العمل استحوذت على العالم الإنساني كله، عندها سيكون العمل هو المركز الذي تدور حوله الحياة، ومن ثم يخضع كل شيء آخر في هذا العالم لهذه القوة، وببطء بالكاد يمكن ملاحظته، قد تصبح جميع الأشياء الأخرى؛ كالأغاني التي مازال الناس يترنمون بها، والألعاب التي تمتعوا بممارستها، والمهرجانات التي احتفلوا بها، والحب الذي منحوه للآخرين، في نهاية المطاف ضمن دائرة العمل.
وقد يأتي قت - ومن دون انتباه أحد - تختفي فيه العديد من العوالم التي كانت قائمة قبل سيطرة العمل على الكون، اختفاءً تامًا من السجل الثقافي، وتغرق في غياهب النسيان.
كيف سيبدو الناس في عالم مشحون بالعمل، وكيف سيفكرون ويتصرفون؟
سيرون في كل مكانٍ حولهم، من هم مقبلين على العمل، أو منخرطين فيه، أو متقاعدين منه، وسيرون أيضًا نقصًا في العمالة وعاطلين عن العمل، وسيكون الجميع تحت أحد هذه الأصناف، سيحب الناس العمل ويشيدون به في جميع أرجاء الكون، متمنين لبعضهم بعضًا يومًا مليئًا بالإنتاج، ولا يفتحون أعينهم إلا على قائمة مهام العمل، ولا يغمضونها إلا عند النوم.
في حين أن قيمة العمل الشاق ستترسخ لدى الجميع، وفي كل مكان، كوسيلةٍ لتحقيق النجاح، وسيُعتبر الكسل أعظم خطيئة يرتكبها الإنسان على وجه الأرض.
وعند كل مكان تذهب إليه، لن يكف مقدمو المحتوى، ووسطاء المعرفة، والمهندسون المتعاونون، ورؤساء الأقسام الجديدة عن الثرثرة حول سير العمل واختلاف النتائج، وخطط ومعايير العمل، وتوسيع نطاق العمل ونموه، والتداول النقدي المتعلق به.
في عالمٍ كهذا، سيتابع رؤساء العمل حياة الموظفين عن كثب، ما إذا قد تناولوا الطعام، مارسوا الرياضة، أخذوا قسطهم من الراحة، أقاموا علاقاتهم الزوجية، ذهبوا للتنزّه، واستغرقوا في تأملهم، لأن تمّتعهم بصحة جيدة، سيمنحهم طاقة في العمل، وسيحقق مزيدًا من الإنتاجية. لا أحد سيفرط في الشراب، سيتناول البعض جرعة من المنشطات لتعزيز أدائهم في العمل، وستدوم حياة الجميع إلى أجل بعيد. كما أنك سترى في مكان ما من هذا العالم أن الشائعات بين الناس تدور غالبًا عن موت آخرين أو انتحارهم بسبب كثرة العمل، لكن الناس سيعتبرون مهاترات تافهة كهذه مجرد استثناءات شاذة عن روح العمل الكلي، بل ستصل درجة اعتقاد بعضهم، أن بذل الإنسان أقصى حدود طاقته في العمل مضحيًا بحياته، أمرًا جديرًا بالثناء، وبناء على ذلك، سيعمل الناس في جميع أرجاء العالم من أجل تحقيق أعمق رغبة في العمل بأكمله، تلك الواضحة وضوحًا تامًا.
يتضح من حديثنا عن هذا العالم، أنه ليس مجرد صورة من الخيال فقط، بل هو بلا شك عالم قريب من واقع العالم الذي نعيشه.
ابتدع الفيلسوف الألماني جوزيف بيبر مصطلح "الانخراط في العمل" بعد الحرب العالمية الثانية، في كتابه: "الترفيه: أساس الثقافة Leisure: The Basis of Cultur 1948، وعرّفه بعملية تحويل البشر إلى مجرد عُمّال ولا شيء آخر غير ذلك.
فعندما يكون العمل مركز الكون الذي تدور حوله حياة الإنسان؛ وعندما يُسخَّر كل شيء في الوجود من أجله؛ وعندما تُحاكي أوقات الرفاهية والاحتفالات واللعب طبيعة العمل- لتصبح هي بدورها عملًا أيضًا؛ وعندما لا يبقى هناك أبعادٌ أخرى للحياة خارج نطاق العمل؛ وعندما يؤمن البشر إيمانًا كاملًا أننا خلقنا من أجل العمل فقط؛ وعندما تختفي طرق العيش الأخرى -التي كانت موجودة قبل سيطرة مفهوم الانخراط في العمل- من ذاكرة البشر الثقافية بشكل تام؛ عندها سيصبح كلّ شيء في نهاية المطاف، هو العمل فقط.
للأسف نحن على وشك تطبيق مفهوم الانخراط في العمل في عالمنا الحاضر؛ فأنا أتحدث يوميًا مع أشخاصٍ سيطر العمل على حياتهم، وأصبحوا يشعرون أنهم في خضم مهمة يجب إنجازها، وأنهم مثقلين بهمومٍ لا يستطيعون البوح بها.
وعلى النقيض من نفسٍ بشرية كرست حياتها للتأمل والتفكير، ترى النفسُ الإنسانية المنخرطة في العمل - منذ الأزل- بأنها تابعة لعالم مقصده تنفيذ مجموعةٍ لا نهائية من المهام، التي تمتد لمستقبل غير محدد، ومن ثم ترى هذه النفس التابعة أن الوقت مورد نادر ينبغي استخدامه بحكمة، ويساورها قلق دائم إزاء ما ينبغي عمله، وما إن كان هذا هو الأمر الصحيح الذي ينبغي فعله الآن، ويشعر أصحاب مثل هذه النفس على الدوام أن هناك المزيد مما يمكنهم فعله، والأدهى من ذلك هو أن المنخرط في العمل عندما يشعر بالإرهاق، لن يحاول فعل أمور تجعله يحس بشعورٍ أفضل، بل سيركز على التفكير في المهام التي يتعين عليه إنجازها يوميًا، ويفكر بعمق في طرق تعزيز الإنتاجية والفعالية والكفاءة.
وكيف سيفعل ذلك؟ من خلال أساليب التخطيط الفعال، والتحديد البارع للأولويات، والتنفيذ في الوقت المناسب، باختصار: يُمثل المنخرط في العمل رمزًا للعمل الدؤوب، والانشغال الدائم والتوتر، رمزًا يحمل مأساة الشعور العميق بعدم الاستقرار الوجودي، والهوس بإنتاج المفيد فقط.
إنّ ما يثير القلق في مفهوم الانخراط في العمل ليس ما يسببه من معاناة إنسانية لا ضرورة لها فحسب، بل ما يسببه في القضاء على جميع أشكال التأمل التي تتعلق بالتساؤل، والتفكير، والإجابة عن أسئلة الوجود الأساسية.
ولكي ندرك كيف يحدث الانخراط في العمل معاناة إنسانية لا لزوم لها، سننظر إلى ظواهره فقط، التي تظهر في وعي شركاء محادثات يومية وهمية، فيتحدث الأول عن شعور التوتر الدائم، وعن الشعور بالضغط الذي يبعثه التفكير بأن هناك دائمًا أمر يجب القيام به، وأن هناك دائماً أمر من المفترض القيام به الآن، وبدوره سيسأل المتحدث الآخر السؤال الذي دائمًا ما يلوح في الأفق: ما هي أفضل طريقة لاستغلال الوقت؟ وسيتحدث كيف أن الوقت عبارة عن عدو، ومورد نادر، يكشف عن قوة العامل المحدودة، وعن الفرص الضائعة، ويسبب شعور الألم الناتج عن ضيق الوقت.
إن جميع هذه الأفكار التي تساور المنخرط في العمل كالأعمال التي لم تنجز بعد وفي ذات الوقت ينبغي إنجازها، والأعمال التي كان ينبغي عليه إنجازها من قبل، وإمكانية عمل شيء آخر أكثر إنتاجية، والأعمال المنتظرة، والتي يجب تنفيذها، جميعها تتآمر كالأعداء لمضايقة العامل المفترض دائمًا أنه السبب الذي يقف وراء الأعمال غير المكتملة. والأمر الآخر هو أن هذا العامل يشعر بالذنب، في كل مرة لا يبذل فيها أقصى طاقاته في العمل؛ وفي هذه الحالة يعتبر الشعور بالذنب تعبيراً عن الفشل في مواكبة أعلى مقاييس العمل أو الحفاظ عليها، حيث يظن هذا المنخرط في العمل أن سبب وجود مهام تفيض من كل جانب هو إهماله لها أو كسله عنها.
وأخيرًا، يدلنا الهوس الشاق لإنجاز المهام على أن تحقيق مفهوم الانخراط في العمل أمر مستحيل عمليًا، ومن هذا المنطق من داخل هذا الأسلوب الوجودي في التفكير، وبعد تجريب ذلك في الحياة الواقعية، استنتج الإنسان الأول على الكوكب أن "الوجود عبء" ما يعني أن "الوجود في الحياة" ما هو في الحقيقة إلا حلقة لانهائية من عدم الرضا.
وهذا يعني أن العبء الذي يخلفه العمل الكلّي؛ من خلال العمل المستمر من دون راحة، والقلق نحو المستقبل؛ والشعور بأن الحياة طاغية؛ والأفكار المزعجة حول الفرص الضائعة؛ والشعور بالذنب الذي يرتبط بإمكانية الكسل؛ كل ذلك سيرتبط في الأخير بعبء الوجود -باختصار سيسبب مفهوم الانخراط في العمل- حدوث "الدوكها" "dukkha"، وهو مصطلح بوذي يشير إلى طبيعة الحياة غير المرضية والمليئة بالمعاناة.
بالإضافة إلى ذلك، إن مفهوم الانخراط في العمل يمنع البشرية من الوصول إلى مستويات أعلى من الواقع، نظرًا إلى الأشياء التي نخسرها في هذا العالم كالإيحاء الفني للجمال، وتفسيرات الأديان للخلود، وبهجة الحب الخالصة، وحس الفلسفة التساؤلي، فجميع هذه الجوانب من الحياة تحتاج إلى الصمت، والسكون، والرغبة الصادقة في الفهم الخالص لهذا الكون، وإذا كان معنى الوجود والفهم هو تلاعب بين اللانهائية والمحدودية يتخطى الواقع الحالي؛ الذي يتضمن انشغالاتنا اليومية ومهامنا الدنيوية؛ والذي يُمكننا من امتلاك تجربة مباشرة مع ما هو أعظم من أنفسنا؛ فإن ما سنخسره في عالم الانخراط في العمل هو كل إمكانيات معنى الوجود الفسيحة، بما فيها السعي وراء سبب وجودنا في هذا الكون.