الجمعة , 20 سبتمبر 2024 - 16 ربيع الأول 1446 هـ 4:23 مساءً
في مرحلة كتابتي لأطروحة الدكتوراة، قضيت أسابيع مضنية امتدت لأشهر كنت أستيقظ فيها كل يوم محدثًا نفسي: اليوم سأنجز العمل الفلاني. ثم لا أنجزه!
بطريقة ما يمضي وقتك وينتصف الليل دون أن تنجز شيئًا يُذكر، تخلد للنوم آملاً في الغد، لكن ينتابك شعور فظيع بأنك لن تنجز، ثم تستيقظ ويتكرر الأمر ذاته.
لا يقتصر هذا الشيء على مرحلة الدكتوراة، بل قد تقع ضحية هذه الدوامة المقيتة في أي أمر يهمك وترغب في إنجازه. وكلما اشتدت وطأة الحالة وطالت بك هذه الأيام الميتة تسلل إليك شعور الاشمئزاز من نفسك فتتآكل على إثره وتضمحل، وهذا شعور مضنٍ لا يتمناه المرء حتى لألد أعدائه.
لكننا لو فكرنا سنجد مبررًا لهذا! كيف لا تشمئز من نفسك عندما تنقض عهدًا قطعته لإنجاز ما يهمك، ولكن تجهل دافع اهتمامك به؟ ومع ذلك تواصل العمل عليه دون توقف، وليس بوسعك إلقاء اللوم على شخص آخر عداك! تقسو على نفسك وتحملها ما لا تطيق وأنت في حيرة من أمرك!
وقد نعزو دوامة غياب الإنجاز هذه إلى كسلنا، فقد صرنا ننضح اليوم بالكسل وعدم الإنتاجية وقلة المسؤولية وإدمان الهواتف المحمولة، فضلًا عن تسويفنا المستمر وقلة تأملنا في أنفسنا.
تسمى هذه الحالة في مجال الإرشاد في أمور الحياة (عقلية السحلية) التي تقصينا عن أصل نشأتنا البشرية، ولا شك أن ما يمنعنا عن إنجاز أمور حياتنا هو عيب في أنفسنا يحتاج أن نسيطر عليه أو نتخلص منه أو نقهره أو نتخلى عنه أو نصححه.
بعد خمس عشرة سنة قضيتها في مساعدة الناس لتجاوز هذا الإحباط- ناهيك عن الوقت الذي استغرقته في مساعدة نفسي- توصّلت إلى استنتاجين آمنتُ بهما، أولهما: أن طريقة تعاطيك المشكلات خاطئة، والثاني: أنها مشكلة سخيفة لا تستدعي كل هذا! ولهذا لا تتهم نفسك بالكسل وعدم الانضباط وقلة المسؤولية، فالموضوع أبسط مما تتخيله.
أنت تعاني من مقاومة داخلية بينك وبين نفسك، وهذه المقاومة ليست ميزة ولا نقيصة، بل أمر فطري في كل إنسان يمكنك مواجهته بذكائك حتى تحسن إدارته، ولكن حتى تحقق هذا كله عليك أن تتعرف عليه أوّلا.
ما هي المقاومة الذاتية؟
أطلق الكاتب ستيفن بريسفيلد في كتابه حرب الفن على هذه القوة التي تمنعنا من الانتفاع بمواهبنا (المقاومة)، وهي قوة عدوانية غامضة وعدو يجب التغلب عليه، ويرى بريسفيلد أن معركتنا مع هذه المقاومة يومية مستمرة لا تتوقف ولا تنتهي.
وقد ساعد نموذج بريسفيلد كثير من الناس –من بينهم أنا- ولا شك أنه أصاب في بعض ما توصل إليه وأخفق في بعضه.
لا ريب أن حالة المقاومة هذه طبيعية ولا بد من مواجهتها يوميًا، لكنها ليست قوة شرسة تفسد حياتنا ولا يجدر بنا معاملتها على أنها عدو خارجي، فأي محاولة لشن حربٍ عليها ستكون خاسرة وغير مجدية.
إنّ المقاومة الذاتية ليست نزعة خبيثة أو مؤذية، ولا جانبًا مظلمًا نخشاه، بل هي جزء منا ينمو من المكان نفسه الذي تنمو فيه مواهبنا ومهاراتنا وأهدافنا العقلية والشخصية والأسرية والثقافية، ولأن ذلك المكان متفرد ويختلف من شخص لآخر نجد أن المقاومة الداخلية لكل فرد منا تمتاز بطابعها وتأثيرها، ولكن ما يتفق عليه كل من تعتريه هذه المقاومة هو الخوف من الألم.
هذه المقاومة هي محاولة لتفادي الألم المرتبط بإنجاز المهام، وأسباب هذا الألم تختلف باختلاف الناس، إلا أنه في تجربتي ارتبط الألم بنوع من فقدان الحب والتواصل سواء كان هذا الحب من الآخرين أو من أنفسنا.
فكر في الشيء المرعب الذي قد يحجب عنك مواهبك وأهدافك ثم تجنبه.
كيف تتعامل مع المقاومة الذاتية؟
إن كنت تفكر فيها وتربطها دومًا بالكسل أو عدم الانضباط، فسأتفهم سبب كونها عائقًا لا محفزًا، هذه المقاومة ليست مدعاة للكسل وإنما هي دافع قوي للإنجاز، وربما نحتاج لكثير من الجهد لحث أنفسنا على التقدم بأهدافنا يومًا بعد يوم، وإذا حاولنا الانضباط لتحقيق أهدافنا فسنخلق مشكلة أخرى مشابهة تزداد فيها المقاومة؛ لأنه كلما اندفعنا إلى خط النهاية ازداد الخوف وتضاعف الصراع، والانضباط أشبه بحزام ملتف حول صدغينا، كلما حاولنا أن نطبقه في حياتنا شددنا ذللك الحزام ليضغط على صدغينا بقوة.
إذًا ما الذي ينبغي فعله؟
إليك بعض النصائح:
1. أدرك أن المقاومة الذاتية تنفعك، وأنّ أسوأ ما في دوامة عدم الإنجاز هو الدمار النفسي، والمقاومة لا تسعى إلى تدميرك، بل تقيك من الألم دون أن تحطمك، وتخيرك ما بين الانجاز والتوقف عن العمل.
2. تعرف أكثر على هذا الألم الذي يقلقك، فعندما نعي ماهية الألم الذي نخشاه وسبب خوفنا سنقلص مخاوفنا منه، ولهذا أعتقد أن التعامل مع القيود على أنها قوة خارجية شرسة قرار خاطئ، والمقاومة الذاتية غير ثابتة، بل تتأثر بتغيير طريقة التفكير وبتقبل المشاعر التي نرى فيها تهديدًا نفسيًا، ولهذا علينا أن نفهم هذا الألم أولا كي نعالجه.
3. فاوض، فقد تعجز عن تصور ما يُحفز مقاومتك الذاتية مباشرةً، وإن حدث ونجحت في تصور ذلك فستحتاج لمدة طويلة قبل أن تدرك طرق معالجة خوفك وقلقك من الألم. وفي هذه الحال أقترح أن تساوم: هل ستترك المقاومة الذاتية تعمل لعشر دقائق؟ أو خمس دقائق؟ وإن لم تستطع العمل، هل ستتحدث بالهاتف؟ ماذا عن التأمل أثناء الاستحمام؟
بهذا ستصفي ذهنك، فحين تحول تفكيرك من "أحتاج إلى إرادة قوية لأترك الكسل" إلى "في داخلي موجة كبيرة من المقاومة الذاتية، لأتعامل معها اليوم".
4. اعلم أنك لست وحدك من يشعر بها! ومع أن المقاومة لا تملك قوى خارقة إلا أن برسفيلد في ظني أجاد حينما وصفها بالأمر المزعج. نعم، هناك قلة من الناس ممن لا يعانون من هذه المقاومة، ودائمًا ما يُخيّل لنا أنهم أشخاص منجزون، لكنني مؤمن بأنك قد تكون أحد هؤلاء القلة في نظر غيرك.
أدرك معنى المقاومة
هناك سبب آخر يدفعني لأنظر إلى المقاومة الذاتية على أنها لون من ألوان الحكمة وليست عدو شرير، فهي تكشف لنا ما نضمره من أمور نظن أن بوسعنا إتمامها، وعادة لا تنمو في أنفسنا مخاوف لأمور تافهة ومنسية.
اعلم أن تأثير المقاومة الذاتية هي المقياس لرغبتك في إنجاز الأمور بصرف النظر عن عدد الأيام التي ستقضيها وإن طالت، وهي السبب الذي يجعلك تشعر بالضيق كل يوم لأنك ما زلت تجر نفسك وتدفعها نحو أهدافك.
لقد أصبحت المقاومة الذاتية اليوم مصدرًا للشقاء والحزن فهي حرب بداخلك كل أطرافها الرابحة والخاسرة تمسك، ولهذا عليك أن تفهم ماهية المقاومة، وحينها سترفق على نفسك وتبدأ في التعامل مع المشاكل العاطفية التي تقف أمامك.
وربما في بعض الأحيان تكون مخاوفنا خيالية، وفي أحيان أخرى تصبح واقع نعيشه، وفي كلا الحالين ستكون هذه المخاوف والآلام جزءًا من مرحلة الإنجاز الذي نطمح إليه ولن تمنعنا من تحقيقه.