الخميس , 03 أكتوبر 2024 - 29 ربيع الأول 1446 هـ 3:51 مساءً
تطرق أذني دائماً عبارات مثل: "سأكون سعيداً عندما ينتهي هذا الفصل الدراسي"، "سأكون سعيداً عندما تتم حفلة الزفاف"، "سأكون سعيداً عندما أجد المنزل الذي أحلم به"، " سأكون سعيداً عندما ينتهي فصل الشتاء"، "سأكون سعيداً عندما أُنهي كتابة أطروحتي العلمية التي بين يدي"، "سأكون سعيدةً عندما أحمل بطفلي"، "سأكون سعيدةً عندما ألده وأراه حولي".
ماذا لو تحقق ذلك؟ ستغمرهم السعادة والبهجة بانتهاء الفصل الدراسي وإتمام حفلة الزفاف والسكن في منزل الأحلام وانتهاء الشتاء وإنجاب طفل صحته جيدة، لكن هذه السعادة لن تدوم طويلاً؛ وذلك لأن الحياة ستعود لطبيعتها ومن ثم سيعودون لتكرار العبارة ذاتها: " سوف أكون سعيداً عندما...".
كنت أقدم جلسات علاجية لمُراجعة كانت على وشك الانتهاء من أطروحة الدكتوراه التي كانت تعمل عليها منذ فترة طويلة، وكانت هذه الأطروحة مصدرًا رئيسيًّا لتيارات التوتر والقلق المستمر التي تعتريها، إذ استحوذت على كامل انتباهها وطاقتها حتى أهملت الكثير من مسؤولياتها الحياتية المهمة الأخرى، وعلى رأسها أسرتها وزوجها وأطفالها، كانت كثيرًا ما تُردد في الجلسات عبارة:" سوف أكون في غاية السعادة عندما أنتهي من رسالة الدكتوراه"، وكنت في كل مرة أُجيبُها: "نعم، سوف تكونين سعيدة مؤقتًا ولكن لن يدوم هذا طويلًا، وسيحل محل أطروحتك همٌّ آخر يزعجك ويشغل تفكيرك"، ولكنها لم تصدقني لاقتناعها بأنها ستكون سعيدة أبدًا فور انتهائها من الدراسة.
لقد أنهت مُراجعتي هذه قبل عدة أسابيع مناقشة رسالتها ونجحت فيها ونالت درجة الدكتوراه، وكما توقعتُ غمرتها السعادة بضعة أسابيع، ولكنها اعترفت في الجلسة التالية أن مشاعر القلق انتابتها مجددًا ولكن هذه المرة بسبب مشكلة صحية طفيفة تمر بها ابنتها.
بثت شكواها إلي تقول: "لا أنفك عن التفكير بصحة ابنتي خشيةَ أن تكون مصابة بداء عضال"، فقلت لها: "خذي نفسًا عميقًا، ودعينا نرى ما قد يحدث وأنتِ تحت وطأة هذه الأفكار، وأخبريني حينها بما تشعرين به".
فأغلقت عينيها وواصلت ممارسة التنفس العميق لبضع دقائق وحين فتحت عينيها اغرورقتا بالدموع وهمست قائلة: "لا أعلم كيف سأتحمل الأمر لو ألمّ خطبٌ ما بأبنائي، هذا صعب".
الأمر ليس صعبًا وحسب بل عسير، ولا شيء يزيد من هشاشتنا وضعفنا مثل تعلُّقنا وحبِّنا الشديد لمن حولنا.
استرسلنا في الحديث واستنتجَت أن انكبابها على الدراسة بعد أشهرٍ من ولادة ابنتها ما كان إلا هروبًا من مواجهة نقطة ضعفها من تعلقها بابنتها، وأدركَت أيضاً أنها مرت بالوضع نفسه في بداية زواجها عندما شغلت نفسها بمشروعٍ تجاريٍّ قائلة: "لقد أشغلت نفسي عنه هروبًا من مواجهة نقطة ضعفي هذه".
ولا شك أن هذا يحصل لنا جميعاً، فعندما تعترينا نوبات القلق –أو ربما من دونها- تحاول عقولنا الانشغال عن ما يقلقنا بأي أمر آخر فيتوجه التركيز على أي شيء واقعي ملموس تفادياً للمشاعر الداخلية المضنية والمخيفة التي لا نقوى على مواجهتها والمتمحورة حول خطر فقدان من نحب.
عندما تكون مهووسًا بعبارة (ماذا لو) التي تدور دومًا حول أحداث لم تحدث حتى الآن فأنت بذلك تحاول صرف انتباهك عن ألم اللحظة الحالية وتسعى إلى تشتيت تفكيرك عن موضوع تعلقك بمن تحب فيصبح هذا نقطة ضعف كبرى وتهديد أساسي لمشاعر الفقد التي عادة ما تؤدي إلى انفطار القلب، وما من تهديد أكبر من الفقد، ولهذا يهرب الناس دومًا من نقطة ضعفهم هذه إلى قرار عدم الارتباط أو بالانكباب على أعمالهم أو بالاستسلام الكامل لقلقهم.
إن لحظات التحول التي تحدث في حياتك هي في الغالب أكثر اللحظات اضطرابًا وتأثيرًا وإرباكًا وتؤدي إلى تضخم إحساسك بفقدان السيطرة وانعدام المنطقية في كثير من أمورك، وهذا ما لاحظته في المراجعين في عيادتي.
تدفعنا الطبيعة البشرية دومًا لتكرار عبارة: "سوف أكون سعيداَ عندما... تنتهي هذه المرحلة أو أتزوج أو أستقر في وظيفتي الحالية إلخ" ولكن التفكير بهذه الطريقة كمين ننصبه لأنفسنا، فحال الحياة هو التغير، ما إن تنتهي مرحلة حتى تبدأ أخرى وهكذا، فالحياة سلسلة من التحولات، حتى وإن لم تكن مستعدًا لخوض تحوُّل كبير فيها مثل الزواج أو إنجاب طفلك الأول، ستبقى طبيعة الحياة ذاتها، وإن كان ثمة ثابت وحيد فيها فسيكون التغيُّر.
تذكر دومًا: الحياة متغيرة ولا يمكننا التنبُّؤ بها، والجزر التي يسُودها الهدوء والسلام لا نجدها إلا داخل المحيطات الهائجة، لذا التحدي الأساسي عند القلق هو البحث عن السكينة حتى في أوج الهيجان، وأعلم أنه لا يَسهُل تحقيق ذلك وقد يزعم البعض أنه من أصعب التحديات الروحية التي تواجهنا لأنه يتطلب تقبل اللحظة الراهنة أيًّا كانت، ولكن كل ما عليك هو تدريب عقلك على تقبُّلها حتى وإن كانت مؤلمة.
أود الإشارة أخيرًا إلى أن تميزك بين ما تستطيع التحكم به وما لا يمكنك هو الحل الأمثل. سلِّم بأنك غير قادر دائمًا على التحكم في المستقبل ولا في نتائج معظم الأحداث في حياتك، ولكن ما تستطيع السيطرة عليه دومًا وهو ردتك على أفكارك التي تبدأ بـ (ماذا لو) التي عادة ما يكون وقودها الخوف، فتنهال عليك لتسلبك متعة اللحظة الراهنة.