الجمعة , 20 سبتمبر 2024 - 16 ربيع الأول 1446 هـ 6:02 مساءً
قد تكون حاسة الشم عندك أقوى من حاسة البصر ولهذا عندما تشم رائحة فطيرة التفاح الساخنة مثلاً تتذكر أجواء منزلك.
حين أستنشق رائحة كتاب جديد أتذكر طفولتي لمّا كنت أقرأ في وقتٍ متأخر من الليل، فيخطر على بالي ملمس قماش الكرسي الناعم الذي كنت أجلس عليه، وهدوء المنزل والناس نيام، فأنسى تعب اليوم وإرهاقه وأستعيد راحتي وتركيزي.
لدى ابنتي كرسي يشبه ذلك الكرسي، ولكن جلوسي عليه لا يحيي تلك الذكريات مثلما تحييها رائحة الكتاب الجديد!
ولست أنا فقط من تمر بهذه المواقف، فبعض الروائح مثل: الكلور، أو البسكويت المخبوز، أو هواء الشاطئ تحفز الذكريات عند كثير من الناس حول حدث أو مكان فيعيشون تلك المشاعر المرتبطة بها مرة أخرى.
هناك دراسات عديدة حول هذا الموضوع بأساليب بحثية متنوعة، وكانت أولى هذه الدراسات ما أجرته الدكتورة راشيل هيرز من جامعة براون في عام ٢٠٠٩ على خمس نساء أظهرت أدمغتهن مستويات نشاط أكبر عند شم رائحة عطر مرتبط بذكرى سعيدة عشنها في الماضي، ومستويات أقل عند شمهن رائحة عطر جديد لا يعرفنه، إضافة إلى ذلك كان نشاط الدماغ عند شم عطرهن القديم أكبر أيضًا من النشاط الناتج عن رؤية زجاجة العطر نفسها.
وفي دراسة أخرى أجريت عام ٢٠١٣ وجد الباحثون أن نشاط الدماغ يزيد بالمنبهات الشمية أكثر من المنبهات البصرية كرائحة الورد مقارنةً برؤيته، كما أظهرت دراسات حالات سريرية أن هناك رابط قوي بين الروائح وبين المشاعر السلبية الحادة، وهي علامة مهمة قد تؤثر في اضطراب ما بعد الصدمة.
يعتمد كثير منّا على حاسة البصر أكثر من حاسة الشم، ولكن كيف لحاسة الشم أن تفوق حاسة البصر في تنشيط ذكرياتنا وعواطفنا؟ الرابط يكمن ببساطة في تكوين أدمغتنا.
كيف تعمل حاسة الشم؟
إن العملية التي يحول فيها الدماغ الجزيئات الموجودة في الهواء إلى ما نفسره بالروائح، وكذلك الآليات التي يستخدمها لتصنيف تلك الروائح وتفسيرها هي عملية معقدة، بل معقدة جدًا، وقد نجح الباحثان ريتشارد أكسل وليندا باك في تحليل هذه العمليات وفك شفرتها، وحصلا على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء و الطب عام 2004.
عندما نقترب من رائحة أو جزيئات متطايرة في الهواء تُرسل الخلايا العصبية التي تشكل خلايا المستقبلات الشمية إشارة إلى جزء من الدماغ يسمى (البصلة الشمية)، وقد استنتج أكسل وباك أنّ ما يقارب ألف جين من الجينات مهم في ترميز أنواع مختلفة من المستقبلات الشمية، كل منها يركز على مجموعة محددة صغيرة من الروائح، مما يعني أنه لا يمكن لكل مستقبل أن يكون مسؤولا عن فهم الروائح كافة، بعد ذلك تُرسل هذه الإشارات إلى ما يسمى (بالمناطق الدقيقة) داخل البصلة الشمية تكون كل منطقة منها عادة مختصة باستقبال رائحة معينة، ثم تتكفل البصلة الشمية بترجمة تلك الإشارات إلى روائح محددة.
تمتد البصلة الشمية من الأنف إلى قاعدة الدماغ ولها روابط مباشرة بمنطقة اللوزة وهي المنطقة المسؤولة عن المشاعر، وكذلك مع منطقة الحُصين المرتبطة بالذاكرة والإدراك.
ويرى علماء الأعصاب أن هذا الارتباط الجسدي الوثيق بين مناطق الدماغ المسؤولة عن الذاكرة والعاطفة وحاسة الشم قد يفسر العلاقة بين الروائح والذكريات العاطفية.
قد تكون ذكريات الطفولة هي أكثر الذكريات التي تنعشها الروائح لأنها المرحلة التي نتعرف فيها على الروائح لأول مرة.
ما من أبحاث تثبت جدوى استثمار هذه العلاقة بين الروائح والذاكرة في تذكر المعلومات أثناء الاختبارات مثلاً أو تذكر المكان الذي وضعنا فيه مفاتيح سيارتنا أو نحو ذلك.
قد تنعش حاسة الشم الذكريات أكثر من حاسة البصر، كما أن مناطق الدماغ المسؤولة عن جمع الإشارات السمعية والحسية ليس لها اتصال مباشر بمناطق الذاكرة في أدمغتنا، وهو ما يفسر قدرة الروائح على إثارة الذكريات العاطفية أكثر من حواسنا الأخرى.
ومع أنّ تجربة إطلاق روائح في دور السينما بالتزامن مع ما يُعرض على الشاشة لم تستخدم منذ عقد الخمسينات من القرن العشرين إلا أنّ منظر الروائح في الإعلانات مازال شائعًا إلى الآن، وربما يستخدم بعض أصحاب العقارات اليوم روائح الفطائر الطازجة لإنعاش الذكريات العائلية ومشاعر الاستقرار عند عملائهم ترويجًا للمنازل المعروضة.
بيّن أن أدمغتنا معقدة جدًا، وقد يصعب تحليل العوامل كلها التي تؤثر على ذاكرتنا، وربما يتساءل المرء: هل يحظى الأشخاص الذين يتمتعون بحاسة شم أقوى بذكريات أفضل؟ هذا سؤال يحتاج إلى بحث مكثف، ولا يوجد إجابة مؤكدة حتى الآن.