السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 1:14 صباحاً
قد تملأ المستقبل الاحتمالات، ولكن هل هو كذلك؟
حين نفكر بالمستقبل يبدو لنا (مجهولًا) وكأنه عالم من الاحتمالات التي تتوقف على قراراتنا الحالية، ولكن هل نحن محقون في نظرتنا هذه؟
يرى بعض الفلاسفة بأن الطريقة الوحيدة لشرح الاختلافات في كيفية نظرنا إلى الماضي والمستقبل: هي تصوّر صورة خفية معينة، ووفقًا لهذا الرأي يتكشّف الوقت نفسه؛ فالمستقبل مختلف تمامًا عن الماضي في العديد من الخصائص، ولو أخذنا بنظرية «الكتلة المتنامية» للوقت، على سبيل المثال: توجد أحداث في الماضي والحاضر، ولكننا نفكر في أحداث المستقبل على أنها غير موجودة لأنها لم تحدث بعد.
وهناك أيضًا بعض المشاكل في هذا النهج الخفي أيضًا، وأولها:
أنه غير مثبت علميًّا، فالمبادئ الأساسية في الفيزياء لا تشير إلى شيء يدل على وجود (صورة كتلة متزايدة من الزمن) أو أي نوع من الحسابات التي قد تُغير الزمن، والمستقبل من وجهة نظر الفيزياء هو كأحداث الماضي والحاضر وإن كنّا لم نعشها بعد.
أما المشكلة الأخرى في استخدام هذه الصورة الخفية لشرح أسباب احتمالات تغير المستقبل هي أن عقول البشر غير مهيأة لاستشعار حقيقة الأمور الأساسية؛ لذا يتطلب الأمر كثيرًا من العمل التجريبي لمعرفة الطريقة التي تسير بها الأمور.
سابقًا كان من الطبيعي جدًا التفكير في الهواء على أنه عديم الوزن، وأن الأشياء الصلبة مليئة بالمادة، لكننا تعلمنا فيما بعد أن الهواء ثقيل، وأن الأشياء الصلبة هي في الغالب مساحات فارغة، ومثل هذه الأمثلة تعطينا أملًا في معرفة ماهية الزمن في المستقبل.
نهجي الخاص في تفسير تغيّر المستقبل هو نهج غير عادي إلى حد ما، لنفترض أن التنقل عبر الزمن أصبح ممكنًا، وانتقل شخص ما إلى الماضي في الوقت المناسب للتفاعل مع الأحداث التي حدثت قبل انطلاقها إلى المستقبل، والإجماع هو أن التنقل عبر الزمن لن يحدث في عالمنا أو على الأقل لن يحصل في المستقبل القريب، لكن الفلاسفة وخاصةً الفيلسوف ديفيد لويس -المؤلف الأمريكي لكتاب حول تعددية العوالم 1986م- يرى بأن هذه الحالة ممكنة منطقيًا؛ باستخدام جدول زمني واحد فقط، فنستطيع سرد قصص متسقة تتضمن التنقل عبر الزمن، لكن في ظل هذا النهج لا يعود المتنقلون عبر الزمن ويغيرون الأحداث من طريقة إلى أخرى كما هو الحال في فيلم العودة إلى المستقبل 1985م مثلاً، بل إنه يشبه كثيرًا التنقل عبر الزمن الذي تجلى في فيلم اثني عشر قردًا 1995م، حيث كان المتنقل عبر الزمن يعيش في الماضي ويشارك في أحداث المستقبل الذي يشكله.
تأثير التنقل عبر الزمن على حرية اختيار المستقبل.
أولاً: يشير التنقل عبر الزمن إلى أن تغيير المستقبل أمر (منظوري) يعتمد على وجهة النظر التي تتبناها؛ لنفترض أنك تشاهد مسلسل (دكتور هو) حيث تدخل إلى آلة الزمن في يوم رأس السنة الجديدة في عام 2020م، ومن منظورك ترى أن الأحداث بعد يوم رأس السنة الجديدة يمكن تغييرها على العكس من الأحداث التي تسبق يوم رأس السنة الجديدة؛ لكن من منظور فيلم (دكتور هو) فإنه يمكنك كذلك التأثير على أحداث الماضي، فتقرر أين ستهبط، ومن سترى، وماذا ستفعل، وهنا ستبدو أحداث الماضي متغيرة، وهذه هي الطريقة التي سنتنقل بها عبر الزمن ونؤثر على الأحداث التي يمكننا تغييرها.
هل يعني ذلك أن حرية اختيار المستقبل تتلخص فيما يمكننا تغييره؟
عادةً ما تأتي الأسباب قبل آثارها وهذا ما يفسّر الاعتقاد بإمكانية تغيير المستقبل، لكنني لا أرى ذلك.
تخيل مرة أخرى أنك في عالم تستطيع فيه أن تعود بالزمن إلى الوراء، وتشعر بالحزن بسبب اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند في سراييفو، فتهرع إلى آلة الزمن وتعود إلى عام 1914م لتحاول منع الاغتيال، يرى لويس أنه يمكنك حقًا منعه؛ لأنه برجوعك إلى الماضي سيصبح التأثير في أحداث الاغتيال أمرًا محتملاً، وقد ندرك أن الاغتيال سيحدث وقد تفشل في منعه، ولكن هذا لا يعني أنك غير قادر على محاولة منعه، فطبيعة الحياة المحاولة رغم توقع الفشل.
وإن كان لويس محقًا وكان التسبب في تغيير الأحداث يُفسّر نظرتنا للمستقبل فإن المتنقلين عبر الزمن سينظرون للأمر على أنه ممكنًا، ولكن في رأيي أرى بأنه غير صحيح إطلاقًا، فلا يمكن منطقيًا للمتنقل عبر الزمن الذي يعرف جيدًا ما سيحدث أن يؤمن بقدرته على تغيير المستقبل، فبعد أن عايشت عواقب اغتيال فرديناند في عام 1914م، ومع السجلات التي تثبت حدوثه، ستتيقن من حدوث الاغتيال بصرف النظر عن محاولاتك لمنعه، ولذا لن يصبح تغيير المستقبل أمرًا ممكنًا.
وإن كانت هذه الحجة صحيحة فالسبب وراء احتمالية تغيير المستقبل هو أننا لا نستطيع التأثير عليه سببيًا، ولأننا أيضًا لا نملك أي ذكريات وسجلات للمستقبل في عالمنا، فجهلنا به هو الذي يُشعرنا بقدرتنا على تغييره.
كما أن التنقل عبر الزمن غير ممكن حاليًا إلى أن نتمكن من التنبؤ بالمستقبل، لكن هناك طرق أخرى قد تمكننا من ذلك، فعلى سبيل المثال: إذا أصبحت خوارزميات التعلم الآلي متقدمة جدًا، قد تصبح تتنبأ بدقة بالخيارات العامة في حياتنا -مثل عادات الإنفاق لدينا-، وأيضًا في خيارات محددة مثل السيارة التي سنشتريها والمدرسة التي سيرتادها أطفالنا والمكان الذي سنقضي فيه عطلتنا.
تخيّل أنك على اطلاع بما قد تشتريه في زيارتك القادمة لمركز التسوق!
ربما تتصور أن هذا لن يكون له أي تأثير على حريتك في اتخاذ قراراتك، فأنت تستطيع تغيير رأيك متى ما شئت خاصة أنك قادر على التنبؤ بالأحداث، ولكن تخيل أن يحوي التنبؤ تفاصيلاً دقيقة ولا يكشف عن خيار واحد فحسب، بل عن مستقبلك الممتد أمامك بأكمله؛ وتخيل أن المتنبئ أيضًا يدرك تأثير معرفتك بتوقعاته على كيفية اتخاذك للقرار، أفترض هنا أن سماع مثل هذه التنبؤات سيكون له تأثير عميق على تجربتنا في الحياة وبهذا سيتلاشى شعورنا بحرية اختيار المستقبل والتحكم به.
أحتاج إلى مزيد من التفسيرات لإقناعك بهذه النظرية، لكن ما أرغب في تبيينه هنا هو مشروع فكري مهم لشرح تجربتنا مع الزمن، فحالات التنقل عبر الزمن لها أهميّة كبيرة هنا؛ لأنها ترينا كيف يربطنا عدم التشابه في تجربتنا الزمنية ببعضنا، حتى لو كان التنقل عبر الزمن محض خيال علمي إلا أنه يدعم العمل العلمي.