الخميس , 03 أكتوبر 2024 - 29 ربيع الأول 1446 هـ 3:59 مساءً
تاريخ الوَحْدة في العالم الغربي
"ولكن يا إلهي ما الحياةُ إلا شعورٌ بالوَحْدة"
هذا ما كتبته سيلفيا بلاث في يومياتها، وأضافت: "مع أن الابتسامات التي نتبادلها والمسكنات التي نتجرعها، عندما ينتهي بك المطاف إلى أن تجد شخصاً يمكن لروحك أن تلتحم بروحه، تفاجئك الكلمات التي تنطقها! كم صدئة هي وبشعة وخاوية وواهنة جرّاء بقائها في ذاك المكان الضيق المظلم داخلك."
بحلول القرن الواحد والعشرين تفشت الوحدة، حتى أصبح الناس يسمونها "وباء"، وحالة تشبه "الجذام" أو "الطاعون الصامت" للحضارة، وقد وصلت المملكة المتحدة إلى مرحلة متقدمة في عام 2018م حيث عينت وزيراً للوحدة، إلا أنّ الوحدة ليست ظرفاً عالمياً ولا تجربة داخلية ذاتية بحته، بل هي مشاعر متضاربة؛ خليط من الغضب والغم والخوف والقلق والخزي، ولها أبعادٌ اجتماعية واقتصادية عن الوقت والذات والإله والعالم؛ أي هناك تاريخ للوحدة.
استُحدث مصطلح "الوحدة" على حالة انفراد المرء بذاته في اللغة الإنجليزية في القرن الثامن عشر، أما قبل ذلك فكان يُشار إليها "بالخلوة"، وكذلك الكلمة اللاتينية "solus" والتي تشير إلى العزلة لم تكن توحي بأي صنوف النقص العاطفي، كانت عزلة الإنسان وخلوته من حاجاته الروحية للعبادة والتأمل، وما دام الإله في معيّة عبده فلن يشعر المرء بوحدته. ولكن بعد قرن أو قرنين طغى شعور "الوحدة" -الذي أصبح مرتبطاً بالفراغ وغياب الارتباطات الاجتماعية- على الإحساس بالانفراد.
فما هي الأسباب؟
تنبع فكرة الوحدة المعاصرة من تغيرات ثقافية واقتصادية حدثت في العالم الغربي من الصناعة وارتفاع مستوى الاستهلاك الاقتصادي وضعف الوازع الديني وانتشار التطور البيولوجي، كل ذلك جعل فكرة "الوحدة" هي ما تهم وليس المنظور المجتمعي التقليدي والتربوي الذي يحافظ على مكانة كل فرد في منظومته.
وفي القرن التاسع عشر استخدم الفلاسفة السياسيون نظريات تشارلز داروين في مبدأ "البقاء للأصلح" لتبرير سعي الأشخاص في العصر الفيكتوري وراء الثروة، وقد أكد الطب العلميّ على هذا التحول بتركيزه على المشاعر والخبرات المتمحورة حول الدماغ وتصنيف الجسد إلى حالات طبيعية وغير طبيعية، وانتهى زمن المزاجات الأربعة (المزاج اللمفي، والدموي، والصفراوي، والسوداوي) والذي سيطر على الطب الغربي لألفي عام وقسّم الناس إلى"أنواع" بميلاد نموذج جديد يعتمد على الكيان الفردي.
وفي القرن العشرين عرّفت دراسات العقل الجديدة -وخاصة الطب النفسي وعلم النفس- المشاعر الصحية وغير الصحية التي قد يشعر بها المرء، فكان كارل يونغ أول من ميز بين الشخصية "الانطوائية" والشخصية "الانفتاحية" في عام 1921، فأصبحت الانطوائية مرتبطة بالحالة العصبية والوحدة، في حين ارتبطت الانفتاحية بالشعور بالانتماء إلى المجتمع والرغبة في البقاء مع الآخرين والاعتماد على النفس، وتجلت هذه الأفكار في الولايات المتحدة لارتباطها بالسمات الفردية المتصلة بالتطور الذاتي والاستقلالية وروح الرغبة في تحقيق الحلم الأمريكي (American Dream).
تفسر الارتباطات السلبية للانطوائية نظرة المجتمع السلبية للوحدة، فغالباً لا يعترف الوحيدون بوحدتهم، لأنها تجعل صاحبها مسكينًا يشفق عليه الناس، فبإمكان أولئك المتأصلين في المجتمع أن يتجنبوا الوحدة وكأنها مرضٌ معدٍ كأي مرض جسدي، وعندما نتحدث عن الوباء المعاصر فإننا نساهم في تفاقم قضية الوحدة بإعطائها حجمًا أكبر من حجمها، بينما إذا افترضنا أن الوحدة قضية شائعة، ولكنها محنة فردية في الأساس فسيسهل تشخيصها وعلاجها.
اكتشف الكتُاب بعد عدة قرون علاقة الصحة النفسية بشعور الانتماء للمجتمع، فخدمة المجتمع وسيلة ينفع بها الفرد نفسه قبل مجتمعه، فكما يقول الشاعر ألكساندر بوب في قصيدته مقالة عن الإنسان (1734):
"حب المرء لنفسه كحبه للمجتمع كاملاً".
وليس غريبًا أن تجد للوحدة دور فسيولوجي واجتماعي، فقد قال عالم الأعصاب جون كاسيوبو قديماً:
"الوحدة كالجوع تهدد سعادتنا، وولدت من شرارة انفصالنا عن مجموعاتنا أو قبائلنا".
وكتب الشاعر جون دون في كتابه Devotions Upon Emergent Occasions عام 1624م:
"الرجل ليس جزيرة في منأى عن اليابسة، ولا المرأة كذلك، كلا الجنسين يشكلان أجزاء من القارة التي يعيشون عليها، جزء من أساس ... وإن جرف البحر الثرى، ستتقلص مساحة أوروبا، كأثر موت واحد منا على عدد البشرية."
وقد نستدل بانفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي على واقعية نصّ جون، وكذلك نرجسية دونالد ترمب في رئاسة الولايات المتحدة هو مثال آخر، وكما أن هذا النص يستخدم مجازات مادية: فيشير جون إلى الجسد السياسي الذي يواجه تدميراً بأنه يذكرنا بالوحدة المعاصرة والتي هي محنة جسدية أو وباء حديث.
نحتاج إلى تقدير دقيق للوحدة، فمن هو الوحيد؟ ومتى يكون المرء وحيداً؟ وما هي أسباب وحدته؟
إنّ الوحدة مكلفة اقتصادياً، خاصة في الشعوب التي تكون نسبة الشيخوخة فيها كبيرة، فاحتمال مرض الوحيدين كبير كأمراض السرطان وأمراض القلب والاكتئاب، وكذلك نسبة احتمالية وفاتهم بسبب وحدتهم لا بسبب آخر تصل إلى 50% على عكس غيرهم، فلا مفر من الوحدة والشيخوخة، لأن رعاية المسنين في العائلة غير شائع في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وخلاف بقية الدول في أوروبا؛ لذلك ترتبط الوحدة بالاقتصاد الفردي.
حتى عام 1830م في المملكة المتحدة كان الجيران والأصدقاء والعائلة والكنيسة هم من يعتني بكبار السن، بعد ذلك أصدر البرلمان البريطاني تجديداً في قانون الفقراء وهو الكف عن تقديم المساعدات المادية للناس باستثناء المسنين والمشلولين بشرط أن تقدم لهم المعونة في مكان أشبه بالملجأ، أما إعانة الفقراء فيكون تسليفاً خلال عملية بيروقراطية وغير شخصية.
إن نهوض المدن وانهيار المجتمعات المحلية وفكرة تكديس المحتاجين في مبانٍ مبنية لهذا الغرض أدى إلى تزايد نسبة الشيوخ المنعزلين، وبالنظر إلى تاريخ الوحدة في المملكة المتحدة نرى أن الدول التي تقوم على الفردية كالمملكة المتحدة وأفريقيا الجنوبية والولايات المتحدة وألمانيا واستراليا تواجه الوحدة بطريقة مختلفة عن الدول التي تشجع على الاجتماع، كاليابان والصين وغواتيمالا والأرجنتين والبرازيل، ويمكننا أن نستنتج كذلك أن الوحدة تختلف باختلاف المكان والوقت.
لا نهدف بكل ما ذكرنا إلى تحسين صورة العيش الجماعي ولا لذكر أنه لم توجد العزلة الاجتماعية قبل العصر الفيكتوري، بل إلى ذكر أن المشاعر الإنسانية جزء أساسي في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية، فعلى سبيل المثال لن يُبرَّر الغضب من الإهانة الأخلاقية إلا إذا آمن المجتمع بالفرق بين الصواب والخطأ والمسؤولية الفردية، وفي المقابل قد نجد الوحدة في عالم يُنظر فيه إلى الفرد على أنه جزء منفصل عن النسيج الاجتماعي وليس منه، وجلي أن الفردية طغت على الاجتماعية والعلاقات وسببت في تكوين لغة للوحدة التي لم تكن موجودة قبل عام 1800م.
سُئل أحد الفلاسفة كيف يعيش الإنسان حياة قيّمة؟ ومن هذا السؤال نلاحظ أن التركيز الثقافي يشير إلى خيارات الفرد ورغباته وإنجازاته. وقد استُخدم مصطلح "الفردية" لأول مرة وبنظرة سلبية في عام 1830م وهي الفترة التي انتشرت فيها الوحدة، فإنْ كانت الوحدة وباءً معاصراً فأسبابها معاصرة كذلك، والمعرفة بتاريخ الوحدة قد يقينا منها.