الخميس , 05 ديسمبر 2024 - 4 جمادي ثاني 1446 هـ 6:27 صباحاً
هل اللغة شرط للوعي؟ أم أن الوعي شرط للغة؟
إنّ اللغة من أكثر السّمات المميِّزة للجنس البشري، وهناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأنها قدرة بشريّة فريدة لا يمتلكها أي كائن حيّ آخر (Berwick and Chomsky, 2016).
إننا نتعلّم القواعد اللغويّة المعقّدة بسهولة خلال السنوات الأولى من حياتنا بدون جهد إراديّ واعٍ، وذلك على عكس الكائنات الأخرى، وكلّما زادت مفرداتنا أصبحنا قادرين على تحديد السّياقات المناسبة لتلك الكلمات والجمل في الأوساط الاجتماعيّة والعلميّة، بالإضافة إلى قدرتنا على تحليل بنية الجمل ودور الكلمات ومعناها في المقام الأول.
فعلى سبيل المثال: نعلم أنّ عبارة "هذا جيّد بالفعل" يمكن أن تكون مجاملةً أو مزاحًا أو تأكيدًا صادقًا، وذلك اعتمادًا على السياق ونبرة صوت المتحدث. تزيد اللغة من تعقيد السلوكيات الاجتماعية، وتوسع المدارك العقلية؛ لأنها تعبر عن أفكارنا، وتمكننا من الاستعلام بوضوح عن الأسباب والمبررات وهذا هو أساس اكتساب المعرفة، ولقد أصبح الجنس البشري عاقلًا إلى حدٍ كبير بسبب اللغة.
ومع ذلك، فإن الموقف مختلف تمامًا فيما يتعلّق بدور الوعي، لا سيما نوع التجربة الذاتيّة المرتبطة "بالوعي الإدراكي" كالشعور بالألم أو الخوف على سبيل المثال. ومع ارتباط الوعي بفهمنا للمعاني، إلّا أنّ العلاقة بين اللغة والوعي ليست مباشرة، ومن الصعب إثبات هذه العلاقة لأن الوعي موجود أيضَا في العديد من الأجناس الحيّة، بينما اللغة ليست كذلك.
يمكننا تسمية هذه المشكلة بالتوزيع الجذريّ غير المتكافئ للغة. وكما يبدو فقد تطوّرت اللغة مؤخرًا عند البشر، بينما نشأ الوعي، على الأقل بشكله التجريبيّ الأساسيّ، عند العديد من الأجناس الحيّة وربما سبق اللغة بكثير.
وهذه مشكلة مُربكة في الواقع، لأن الوعي مرتبطٌ ارتباطًا جوهريًّا بالذكاء والمرونة المعرفيّة، لذا فهو مرتبطٌ كذلك بقدرة اللغة على ترسيخ عقلانيّة البشر.
قد يبدو بدهيًّا وجود علاقة بارزة بين اللغة والوعي، وربما تكون اللغة شرطًا ضروريًّا للوعي. ولكن هذا من شأنه أن يقصر الوعي على البشر إذا تبيّن أنّ اللغة قدرة يتفرد بها البشر! ولهذا، فإن الإشكال يكمن في الخلاف بين علاقة اللغة بالوعي الذي يحتاج إلى تفسير.
في البداية، نحتاج إلى فهم اللغة ودورها في الإدراك. إحدى الآراء ترى أنّ القدرات اللغويّة هي التي تُشكّل التفكير، فقد لا تكون اللغة مجرّد وسيلة للتواصل، حسب المنطق الاستنتاجي، وإنما في الأساس هي الوسيلة التي تُفسّر بها الأفكار (Fodor, 1975, 2008).
من الواضح أنّ اللغة ضروريّة لجميع أنواع الدراسات المتعلّقة بجوانبنا العقليّة، وبالتالي فهي ضروريّة للإخبار عن حالات العقل الواعية. في الحقيقة، تعتمد قابليّة الإخبار عن حالاتنا العقليّة على القدرات اللغويّة، مع أنّ بعض صور التواصل الأساسيّة يمكن أن تحدث دون استخدام اللغة من خلال الإيماءات، ولكن هذا لا يزال يتطلب شكلاً من أشكال الفهم الدلاليّ. والأهم من ذلك أنّه بفضل قدراتنا اللغويّة يمكننا الوصول إلى أفكارنا وأفكار الآخرين. إذا تصوّر المرء الوعي على أنه سبيل للوصول إلى أفكارنا من أجل اتّخاذ موقف أو قرار، فمن غير المفاجئ أن يرى اللغة شرطًا أساسيًا للوعي. وهذه الحالة التي يلجأ فيها العقل إلى اللغة لترجمة الأفكار تُسمى الوعي الاستدلالي (Block, 1995).
ولكن هناك أوجه بديلة لفهم اللغة، فعلى سبيل المثال، يمكن للمرء أن لا ينظر للغة على أنها رموز تستخدم لتفسير المضامين والاستنتاج فحسب، بل ينظر لها على أنها مجموعة من المهارات الطبيعيّة التي تسمح بحرّية التصرف واتّخاذ القرار وأنها جزء من تفاعلنا مع البيئة. وهي أقرب ما تكون بالهِبة، وكأنها مِنح خاصّة (Gibson, 1979).
الفكرة الرئيسية هنا هي أن التمييز الجوهريّ بين لغة الإنسان وأنواع التواصل الحيوانيّة الأخرى ليس تمييزًا في النوع أي أنّه ليس اختلافًا في القدرات، بل هو اختلاف في التعقيد. بعبارة أخرى، إنّ مهاراتنا اللغويّة، من الناحية الاستدلاليّة، أكثر تجريدًا وتعقيدًا من مهارات التواصل لأي كائن آخر، والتي ترتبط بقدرتنا على إجراء تفاعلات معقّدة للغاية مع بيئتنا ومع الآخرين.
ومع ذلك فمن حيث الأصل يمكن العثور على نفس القدرات الديناميكيّة والبيئيّة الدقيقة التي تُشكّل اللغة لدى الكائنات الأخرى. وهذا تفسير معقول من وجهة نظر تطوريّة تتجنّب مشكلة التوزيع الجذريّ غير المتكافئ للغة، ولكن حتى مع هذه النظرة الأقل رمزيّة للغة، فإن وظيفتها الرئيسيّة ماتزال مرتبطة بالتفكير والاستدلال لاتّخاذ القرار وحرّية التّصرف، والوصول إلى المعلومات بطريقة معرفيّة تضمن النجاح. ومع أنه واضح أنّ بعض الحيوانات قد تمتلك لغة خاصّة وفقًا لوجهة النظر هذه -وهي ميزة إن نظرنا للغة على أنها شرط أساسي للوعي- إلا أنّ هذا الرأي لا يخلو من بعض الإشكالات.
وهناك إشكالان بارزان لهذا الرأي:
1- تعيين الكيفية التي تستطيع فيها الدلالات اللغويّة المبنيّة على السلوك والمقاصد تفسير البنية الدلاليّة والتراتبيّة للجمل، وهو أمر أساسيّ لفهم اللغة.
2- تحديد ما إذا كان تصنيف العديد من الأجناس الحيّة تحت مسمى "متحدثي اللغة" يأتي على حساب ضبابيّة التباين بين أنواع التواصل عامةً والتواصل اللغويّ-النحويّ خاصةً.
إذن، يبدو أنّ اللغة قد تكون شرطًا ضروريًّا للوعي الاستدلاليّ، نظرًا لأن مناهج اللغة تتعلّق بالوصول إلى المعطيات والتحليل الاستنتاجيّ للفعل، ولكن ماذا عن الوعي الإدراكيّ؟ يُقدّم الحقل الذي يدرس التباين بين الوعي والانتباه (CAD) حلاً للعلاقة الإشكالية بين اللغة والوعي. وبذلك، على عكس الوعي الاستدلاليّ، فإنّ الوعي الإدراكيّ لا يحتاج إلى لغة. وهذا هذا الرأي صائب من نواحٍ عديدة.
فمثلاً، قد يكون الوعي الإدراكيّ موجود بالفعل عند العديد من الأجناس الحيّة، بينما اللغة مقصورة على البشر، وهذا اعتمادًا على كيفية تعريف المرء للغة، لكنّنا هنا نتحدث عن القدرة على التواصل بطريقة لغويّة نحويّة.
يسترعي هذا المنظور أيضًا البديهيّات الأساسيّة حول طبيعة التجارب الواعية. ولنأخذ مثالًا على ذلك: لماذا تكون الوظائف المعرفيّة للغة ضروريّة لتجربة الألم أو الخوف؟ أليس من الممكن لمخلوق حيّ أن يُجرّب الأحاسيس والعواطف الأساسيّة دون طريقة رمزيّة لوصف المفاهيم أو المعاني الدلاليّة، أو بطريقة مستقلّة عن إمكانيته في اتّخاذ القرار وحرّية التصرف؟
لقد أصبح الرأي القائل بأن اللغة شرطٌ ضروريٌّ للوعي الإدراكيّ (أو التجربة الذاتيّة الأوليّة، والتي تتضمّن شيئًا مثل الشعور بالألم) أقل منطقيّة بسبب الأسباب النظريّة، كما تقدّم سابقًا في دراسة التباين بين الوعي والانتباه (CAD)، وأيضًا بسبب النتائج التجريبيّة، مثل تلك التي تتعلّق بالارتباطات العصبيّة للمشاعر الأوليّة.
يساعد التمييز بين الوعي الاستدلاليّ والوعي الإدراكيّ في تفسير سبب ربطنا للأول بالذكاء، والآخر بالموقف الأخلاقيّ. ويرتبط هذا التمييز ارتباطًا وثيقًا بالتساؤل عن دور الوعي الإدراكي تحديدًا، وإنْ كان المرء يتبنى وجهة نظر مفادها أنّ الوعي الإدراكيّ لا دور له -أي أنّنا ببساطة نحمله بداخلنا منذ الأزل- فهو حينها ينظر للأمر بنظرة ظاهرية، وكأنّ الوعي مجرد نتيجة تولّدت من العمليّة المعرفيّة وبدون غرض واضح! ونحن، على عكس ذلك، لا نُسلّم بصحة هذا القول ونعتقد بأنّه خاطئ تمامًا.