السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:36 صباحاً
فقدان الذاكرة: كيف تنقلب حياة المرء رأسًا على عقب من إصابة في رأسه؟
كانت لدي ذاكرة حديدية، تمكنني من حفظ أرقام جهات الاتصال في هاتف صديقتي، بالإضافة إلى أرقام بطاقاتي الائتمانية ورقم رخصة قيادتي، كانت لدي قدرة مدهشة على مشاهدة الفلم لمرة واحدة ومن ثم سرد كل عباراته التي لا تتجاوز السطر الواحد وقتما أشاء، كنت قادرة على إنهاء كتاب كامل في يوم واحد أو في عطلة نهاية الأسبوع إذا كانت عدد صفحاته كبيرًا، كما كنت قادرة على أداء أكثر من مهمة بنشاطٍ لا ينقطع، بل والتوفيق بين خمسة أمور في آن واحد.
ولكن كل ذلك تغير عندما تزحلقت على الجليد في أحد صباحات فبرايرالباردة؛ إذ سقطتُ بكامل قوتي على مؤخرة رأسي، وأصِبتُ على إثرها بإصابة رضِّيَّة في دماغي صاحبتْها عدة إصابات أخرى في جسدي، ولم يكن لدي حينها أدنى فكرة عن المرحلة الجديدة التي كنتُ بصدد خوضها، و لا عن الصعوبات التي تنتظرني والتي ينبغي علي تحملها. كانت الأعراض الفورية الأكثر وضوحاً بعد إصابتي تلك هي فقدان الذاكرة قصير المدى، والخلل في وظائف دماغي المعرفية، والحبسة الكلامية (كأن أعجز عن تذكر كلمة ما أو أن أستخدم كلمة خاطئة في حديثي). شُخِّصتُ في البداية بارتجاجٍ شديدٍ في الدماغ، وطمأنني الطبيب بأن معظم الأعراض التي كنت أعانيها آنذاك ستختفي من تلقاء نفسها في غضون أسابيع قليلة. ولكن هذا لم يحدث إذ مضت ثمان أسابيع وأنا أعاني دون أن تزول تلك الأعراض، فخضعتُ حينها للتصوير بالرنين المغناطيسي للتأكد من عدم إصابتي بنزيف أو بأضرار جسيمة أخرى، ولحسن الحظ أظهرت النتائج سلامة دماغي، ولكنها لم تُظهرالتمزق البسيط في الأوعية الدموية، فمثل ذلك لا يظهر واضحاً في نتائج التصوير المغناطيسي إلا أن تركه دون علاج قد يؤدي إلى مضاعفاتٍ على المدى الطويل. كل ما أظهرته نتائج التصوير المغناطيسي هو إصابتي بإصابة رضِّيَّة في الدماغ، ولا تظهر عادة على المريض علامات شفاء واضحة من الإصابات الدماغية الرضِّية، إلى جانب استحالة تماثل حالات المرضى الذين يعانون من هذا النوع من الإصابات، إذ قد يتشابهون أحيانًا في بعض الأعراض الرئيسية ولكنهم يتباينون تباينًا ملحوظًا في الأعراض الأخرى المصاحبة وفي الوقت المستغرق للتعافي. أعرف مرضى تعرضوا لإصاباتٍ دماغية خفيفة مثلي ولكن الأمر تطلب منهم سنواتٍ حتى تحسنت حالتهم، بينما تعافى شخص آخرأعرفه في غضون عامٍ واحدٍ تقريبًا مع أنه كان يعاني من إصابة بليغة في الدماغ نجم عنها دخوله في غيبوبة لفترة طويلة، وبعد هذا أدركت عدم وجود وصفة سحرية أو ضمانات للتشافي. في الواقع لا يشفى معظم المصابين بإصابات رضية في الدماغ شفاءً تامًّا، إذ ثمة جزء من أدمغتهم يبقى تالفًا للأبد، ولكننا نحتاج لتعلم بعض المهارات وممارستها كي تساعدنا على التكيف مع هذه المشاكل، كاستخدام أجهزة الكمبيوتر المحمولة لتدوين المهام اليومية، واستعمال أجهزة تحديد المواقع الجغرافية لتجنب التيه في الطرقات، والاعتماد على التقويم لمتابعة مواعيدنا وما إلى ذلك، كما أني صرت أسمي نفسي مؤخرًا ملكة الملاحظات اللاصقة من فرط اعتمادي عليها، إلا أن كل آليات التكيُّف البديلة هذه لا تغني ولا تعيدنا إلى ما كنا عليه في السابق.
إنَّ التكيُّف مع وضع المصاب الطبيعي الجديد أمرٌ يبعث على الإحباط، خاصة عندما تكون نسختك القديمة حيَّة في ذاكرتك طويلة المدى، ثمة إحباط يعتريك عندما تتذكر قدراتك العملية في السابق وتتوقع أن تستعيد قدرتك الفذة تلك بسرعة ولكن هذا لا يحدث، فالتعافي يتطلب منك وقتاً طويلًا، وكلما طالت المدة تفاقم إحباطك. أصيبت قبل عامين جوليا بوتوكنجاك أوفيرن بإصابة دماغ رضِّية في حادث سيارة في تايلر- ولاية تكساس، وقد كتبت لي ملخص الحال الذي آلت إليه ذاكرتها قائلة:
أصيبت هيذر ل. جورج من نيو برايتون - مينيسوتا بإصابتين رضِّيَّتين في الدماغ؛ الأولى كانت في عام 2012 والثانية في عام 2014، عانت على إثرهما من مشاكل في الذاكرة، وقد أخبرتني ذات مرة عن مهارة جديدة اكتسبتها ساعدتها على التكيف مع ضعف ذاكرتها قائلة:
تعرضت كارا هاركينز من ليكسينغتون بولاية كنتاكي لإصابة في الدماغ عام 2012 بسبب سيارة اعترضت طريقها أثناء قيادتها، ولا تتذكر كارا الآن أي تفاصيل عن الحادث؛ نظراً لما تعانيه الآن من ضعف في الذاكرة، وهذا ما قالته ملخِّصةً معاناتها:
من أسوأ العبارات التي يمكن قولها لمن تعرض لإصابات رضِّيَّة في الدماغ: ((أنا أيضاً كثيرُ النسيان))، أدرك أنك تقول هذا من باب المواساة لكنني أشعر بأنك تستهين بمعاناتي، أؤكد لكم بأن كثرة النسيان شيءٌ مختلفٌ تمامًا عما أعاني منه الآن، أعرف ذلك لأنني مررتُ بذلك في الماضي، حين يشرد ذهنك للحظة وتنسى المكان الذي وضعت فيه مفاتيح سيارتك، أو من الشخص الذي كنت تنوي الاتصال به، ما هي إلا لحظات من النسيان وما تلبث حتى تتذكر كل ما نسيته في النهاية ولا تتوقف حياتك على إثره. أما وضع ذاكرتي الجديد فمختلفٌ تمامًا عن كل ما تمر به في بعض ساعات يومك، الأمر أشبه بوجود ثقب أسود يبتلع كل ما في ذاكرتي ما لم أقيِّده ( إما على ورقة لاصقة لتذكيري لاحقًا أو بمنبه على هاتفي) وإن لم أفعل فلا أستبعد نسيان ذلك الأمر للأبد.
|