الجمعة , 20 سبتمبر 2024 - 16 ربيع الأول 1446 هـ 4:08 مساءً
سؤال تردد صداه على مر العصور: هل البشر-مع تسليمنا بجوانب القصور عندهم- مخلوقاتٌ جُبِلت بفطرتها على الطيبة والمُواجدة والإحسان؟ أم أننا خُلِقنا وخُلِقت معنا نزعةٌ للشر والعناد والتكاسل والتعالي والغضب والأنانية؟ الإجابة على مثل هذه الأسئلة ليس بالأمر السهل، وذلك لتفاوت الأمر من شخص لآخر، إلا أننا في هذه المقالة سنجيب على هذا السؤال من عدسة علم النفس الذي وصف لنا علماءه عشر صفات سيئة وغير محمودة في طبيعة الناس:
أظهرت دراسة أجريت على عدد من الطلاب مثالاً صادماً على هذا التجرُّد الصريح من الإنسانية، إذ أظهرت عمليات مسح الدماغ للطلاب أثناء مشاهدتهم لصور المشردين ومدمني المخدرات نشاطاً عصبياً أقل مقارنةً بصور الأشخاص ذوي المكانة العالية. كما خَلَصَت دراسة أخرى إلى أن دافع من يعارضون استقبال المهاجرين العرب في بلادهم هو نبذ العرب والمسلمين وتصنيفهم لهم في مرتبة أدنى من البشر العاديين. وأثبتت دراسات أخرى أن الشباب يرون الطاعنين في السن في مرتبة بشرية أدنى من بقية البشر العاديين، كما ينطبق الأمر ذاته على نظرة كلا الجنسين الدونية للمرأة الثملة واعتقادهم أنها لا تستحق أن تعامل كما يعامل الجنس البشري. وقد تتجذر هذه النظرة الدونية أحيانًا في سن مبكرة إذ قد ينظر الأطفال دون الخمسة أعوام نظرة دونية غير إنسانية إلى الآخرين من خارج مجتمعهم- سواء كانوا من مدينة مختلفة أو من جنس مختلف عن الطفل- على عكس من ينتمون إلى مجتمعهم.
خَلَصت دراسة أجريت عام 2013 إلى أننا نشعر بالشماتة منذ سن الرابعة ويتضاعف هذا الشعور إذا أدرك الطفل أن الشخص يستحق المعاناة. كما كشفت دراسة حديثة أخرى أن الأطفال عند بلوغهم سن السادسة يفضلون إنفاق أموالهم مقابل مشاهدة دُمية تتعرض للضرب عوضاً عن إنفاقها على ملصقات طفولية ملونة.
أثبت عالما النفس الأمريكيان ميلفين ليرنر وكارولين سيمونز العواقب المؤسفة لشيوع مثل هذه المعتقدات في بحث أجرِيَ في ستينيات القرن العشرين، إذ أجرى العالمان تجربة على طالبة رُبِطَت بجهاز صدماتٍ كهربائيةٍ كان يصعقها كلما أجابت جوابًا خاطئًا، مما انعكس على نظرة النساء الأخريات لها واللاتي اتفقن على انخفاض مستوى تقبُّلهن واحترامهن لها بعد مشاهدتها تحت وطأة المعاناة، وخاصة لعدم قدرتهن على رفع هذه المعاناة. ومنذ ذلك الحين و الأبحاث تؤكد نزعة البشر إلى إلقاء اللوم على الفقراء وضحايا الاغتصاب ومرضى الإيدز وغيرهم من الضحايا تحت شعار عدالة العالم. وقد ينطبق التفسير ذاته أيضًا على نظرتنا اللاواعية التي تبجِّل الأثرياء.
لو كانت المنطقية وسِعة الأفق سمة سائدة في جميع الناس لكان عرض الحقائق كافيًا لتصحيح المُعتقدات الخاطئة لدى من يجادلك، ولكن أظهرت دراسة في عام 1979عدم جدوى هذا المنهج، بعد أن أُجرِيت الدراسة على فريقين؛ الأول يؤيد عقوبة الإعدام والآخر يعارضها والملفت هو تجاهل كلا الفريقين تجاهلاً كاملًا للحقائق والحجج التي يعرضها الطرف الآخر والتي تثبت الخلل في معتقدهم الأولي الذي ينافحون عنه، وقد يعزى هذا إلى اعتقادنا بأن الحقائق المعارضة لما نؤمن به تزعزع بشكلٍ ما هُويَّتنا، فضلا عن أن ثقتنا الزائدة بأنفسنا تخلق فينا اعتقادًا بأن آراءنا تتفوق على آراء الآخرين مما يثنينا عن البحث والاستزادة أكثر.
وقد تجلى ذلك في دراسة مثيرة للجدل عام 2014 آثر فيها 75% من الرجال و 25% من النساء الذين أجرِيَت عليهم الدراسة صعق أنفسهم بجهاز الصعقات الكهربائية على قضاء 15 دقيقة مع ذواتهم والتفكُّر بهدوء.
قد تخف حدة اللامنطقية والتزمُّت إذا ما تحلّى المرء بالتواضع والبصيرة بالذات، ولكن يبالغ معظمنا في نظرته لما يتمتع به من قدرات وخصال مختلفة مثل القدرة على القيادة أو سِمَتَي الذكاء والجاذبية، وهذه ظاهرة تُعرف بـ (تأثير بحيرة ووبيغُون) نسبة إلى المدينة الخيالية ووبيغون التي يتمتع جميع نسائها بالقوة وجميع رجالها بالوسامة وجميع أطفالها بقدرات تفوق من هم في أعمارهم. تجدر الإشارة إلى أن أقل الأشخاص كفاءة هم من يميلون إلى إبداء ثقة مفرطة بالنفس أكثر من غيرهم (أو ما يعرف بتأثير دانينغ كروغر)، ويبدو أن هذا التعزيز الذاتي الزائف مُبالغ فيه ويفتقر للمنطقية عندما ننظر له من منظور أخلاقي، إذ لو ادعى بعضنا بأنهم أصحاب مبادئ ثابتة ومنصفة، فهذا يعطي الحق أيضًا للمجرمين في السجون بأن يزعموا أنهم أكثر طيبة وصدقًا وأجدر بالثقة من عامة الناس!
يحسن بنا الحذر من الأشخاص الذين يسارعون لاتهام الآخرين بصوتٍ عالٍ إذا ما لحظوا فيهم أدنى خللٍ أخلاقيٍّ، لأن مثل هؤلاء الوعاظ الأخلاقيين قد يخطئون أخطاء مشابهة ولكنهم لا يضخمونها ولا يؤنبون أنفسهم مثلما يؤنبون غيرهم، وقد كشفت إحدى الدراسات شيوع مثل هذا السلوك الأناني بين من أجريت عليهم الدراسة بعد أن عُرِض عليهم القيام بإحدى مهمتين فاختاروا المهمة الأسهل، ولكن السيناريو قد يختلف عندما يتعلق الأمر بغيرهم، وفي دراسة مشابهة درست ظاهرة قديمة تعرف باسم (تحيُّز الفاعل-المراقب) ثبت ميلُ الناس إلى لوم الآخرين دومًا في كل موقف، فعندما يخوننا شريكنا نعزو هذا مباشرة إلى شخصيته السيئة، بينما عندما نفعل نحن الفعل ذاته الذي لمناه عليه فإننا نعزو حدوث ذلك إلى الظروف دون أن نلقي باللوم على أنفسنا! وقد أثبتت الأبحاث الحديثة هذا وخلَصَت إلى أننا نضخم أي فعل سيء عندما يرتكبه الغرباء ونقسو عليهم أكثر مما لو ارتكبها أصدقاؤنا أو ارتكبناها نحن، وقد تفسر هذه المعايير المزدوجة والمتناقضة السائدة بين الناس والتي تخدم صالحهم الذاتية ظاهرة الفظاظة المتفشية في المجتمعات اليوم.
جميعنا نتفق أن وسائل التواصل الاجتماعي اليوم كشفت لنا بعض الجوانب السيئة في الطبيعة البشرية، وهذا بسبب غياب القيود عن الشبكة العنكبوتية وخاصية إخفاء الهوية التي تشجع من لديه نزعة لاأخلاقية على الإساءة. وقد أشارت الأبحاث إلى أن الأشخاص الساديون- وهم نسبة لا يستهان بها يعيشون معنا- يميلون إلى تصيُّد زلات الآخرين لاسيَّما عبر الشبكة العنكبوتية، وقد كشفت دراسة نُشرت العام الماضي دور الحالة المزاجية المضطربة والتَّصيُّد الذي يعانيه الشخص من الآخرين في مضاعفة احتمالية تفريغ معاناته هذه من خلال ممارسة الأمر ذاته بتصيُّد زلات غيره. ولا يمكن الاستهانة بمُمارسي هذا النَّوع من التصيد العدواني حتى وإن كانوا قليلي العدد إذ من الممكن أن يكون تأثيرهم قويًّا في نقل هذه العدوى السلبية لغيرهم بشكلٍ لا يمكن السيطرة عليه، وهذا ما توصل إليه العلماء بعد أن أجروا دراسة على منشورات القُرَّاء النقاشية على موقع سي إن إن إذ أظهرت نتائج الدراسة أنه كلما زادت نسبة المنشورات المُسيئة زادت مع مرور الوقت نسبة المستخدمين المُسيئين.
يقول العالِم الأمريكي المتخصص بعلم النفس والشخصيات الإنسانية دان مكآدامز أن عدوانية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإهاناته العلنية لها جاذبيتها الخاصة وأن تغريداته التحريضية أشبه بعروض ذكر الشمبانزي الهجومية التي يتمتع بمشاهدتها من يحضرها. إذا كان ما يقوله مكآدامز صحيحاً، فيمكن تعميمه على نطاق أوسع، فنقول بأن الشخصيات القيادية المعتدية تلقى رواجًا أكثر بين الناس من الشخصيات القيادية العادية. وقد كشفت إحدى الإحصائيات أن قادة التمويل في نيويورك أحرزوا درجات عالية في الصفات السيكوباتية وأحرزوا نسبة أقل من المتوسط في الذكاء العاطفي، وفي تحليل شمولي نُشِر عام 2018 تبين أن هناك رابط بسيط ولكنه ملحوظ بين سمات أصحاب المناصب العليا المعتدية، ولكن هذا لا يحدث دائمًا إذ ثبت أيضًا أن العدائية أحيانًا قد تجعل من القائد المعتدي قائدًا ضعيفًا.
إننا لا ننتخب الأشخاص ذوي السمات العدائية ليصبحوا قاداتنا وحسب بل تشير الدلائل إلى أن الرجال والنساء ينجذبون إلى الأشخاص الذين يتَّسمون بما يسمى بـ (ثالوث الظلام) الذي تجتمع فيه السمات الثلاث: النرجسية والعدائية والميكافيلية (التي يؤمن صاحبها بمعتقد الغاية تبرر الوسيلة)، وهذا من شأنه أن يزيد من خطر انتشار مثل هذه السمات بين الناس. كما كشفت إحدى الدراسات أن إعجاب المرأة بالرجل يزداد إذا ما اتصف بصفات أنانية مثل الاهتمام بالذات والخداع و تبلد المشاعر، وقد ناقشت إحدى النظريات نجاح من يتسمون بمثل هذه الخصال الأنانية في حياتهم الأسرية ونيلهم للثقة واستعداد شريكهم للمجازفة. هل معرفة هذا مهم لمستقبلنا؟ أجل قد يكون مهمًّا، لاسيَّما إذا وضعنا بعين الاعتبار ما كشفته ورقة بحثية نُشِرت عام 2016 أظهرت نتائجها أن عدد الأطفال الذين تنجبهم المرأة يزداد أكثر عند ارتباطها برجل نرجسي. لا تنزعج كثيراً بعد قراءة هذه الحقائق العشر، لأنها لم تتطرق للنجاح الذي حققه البعض منا في التغلب على غرائزنا البشرية، ويمكن أن نخلص إلى أن اعترافنا بقصورنا البشري وفهمه من شأنه أن يساعدنا على التغلب عليه بنجاح، وبالتالي تنمية غرائزنا الإنسانية الأخرى الجيدة التي جُبِلنا عليها.
|