الأحد , 10 نوفمبر 2024 - 8 جمادي الأول 1446 هـ 6:08 مساءً
لا يقول الأطفال "أغرب الأشياء" فحسب، فمع اللعب والاستقصاء يمكنهم الاقتراب إلى أعمق أسئلة الحياة
غالباً ما يلقونني الناس بالحيرة والشك عندما أقول لهم بأنني أدير مركزًا لتكون الفلسفة في حياة الأطفال. كيف يمكن للأطفال أن يطرحوا تساؤلاتٍ فلسفية؟ أليس هذا صعبًا عليهم؟ هل تحاولين تعليم الفلسفة لأطفال الروضة؟ أو ما نوع الفلسفة التي تعلميها إياهم؟
أتفهم استياء الآخرين هذا عند معرفتهم عملي وما أقوم به داخل المركز لأنها تنتج عن افتراضات شائعة جدًا – حول الأطفال والفلسفة. فعملنا في مركز الفلسفة للأطفال بجامعة واشنطن عن ما يجب علينا عمله لمواجهة تحدي المعتقدات التي تتعلق بقدرات الأطفال المحدودة، وتوسيع مفهومنا لطبيعة الفلسفة ومن بإمكانه المشاركة فيها؛ ذكر لنا أحد الأطفال في سن السابعة بأنه: "في الفلسفة ننمي عقولنا".
أيضًا معظم جلساتنا الفلسفية مع الأطفال هي جلسات تُطبق في مدارس ابتدائية حكومية؛ حيث نهدف منها أن نستكشف تلك الموضوعات التي يريد الأطفال التفكير بها، ونعزز النقاشات والآراء حولها. فأنا لا أرى ما أفعله أنه تدريس للفلسفة ولا أهدف لتثقيف الأطفال حول تاريخها، ولا لتعليمهم الحجج التي قدمها الفلاسفة المحترفون.
فتساؤلات هؤلاء الأطفال غالبًا ما تشكّل أهم الأنشطة الفلسفية كالتفكير في معنى الخبرات والمفاهيم العامة من أجل تطويرهم لفهم العالم والآخرين وتطوير أنفسهم. وعند سؤالي لهم عن ما هي الأسئلة التي تمر ببالهم؛ عادةً ما يجيبني هؤلاء الصغار بتساؤلات: لماذا أنا هنا؟ من أنا؟ لماذا يوجد كرْه بالعالم؟ مالذي يحدث عندما نموت؟ كيف لي أن أعرف ماهي الطريقة الصحيحة للعيش؟
فقد أخبرتني إحدى الأمهات أن ابنتها في سنها الثالثة دائمًا ما تسألها: "ماما! لماذا تتغير الأيام؟"
على أننا نحن البالغين نعلم أن الأطفال يميلون إلى طرح الكثير من الأسئلة، إلا أننا نعتقد بأنهم غير ناضجين وساذجين جدا؛ ولا يمكنهم التفكير بجدية في الموضوعات المعقدة؛ لذلك نصنفهم بأنهم فضوليين ومليئين بالدهشة، دون افتراض عدم فهمهم للأبعاد الفلسفية التي يطرحونها في معظم أسئلتهم.
لكن لو عدنا إلى مرحلة طفولتنا؛ سيتذكر كلٌ منّا أن تساؤلاتهم الفلسفية بدأت في ذلك السن؛ فكلنا نرى أن سن الطفولة أو مرحلتها هي إحدى فترات الحياة التي نتساءل فيها كثيرًا. و معظم اهتمام العديد من الفلاسفة المحترفين بهذا المجال جاء بسبب حماسهم المبكر للتساؤل. فيصف بعضهم تجربته في تلقي دروس الفلسفة أو قراءته لنص فلسفي والتعرف على الأسئلة المتعلقة بذلك بأنها مشابهة لتلك التي كانوا يفكرون بها في صغرهم.
عندما كنت طالبة دراسات عليا في مجال الفلسفة، ذُهلت بالأسئلة التي يطرحها أطفالي؛ لذا بدأت أتفكر في مرحلة طفولتي واستذكار أفكاري عن الحياة والموت ومعناهما، وأيضًا معنى الصداقة والسعادة والعائلة، على سبيل المثال: أتذكر عندما كنت في سن السادسة أو السابعة من عمري، وأنا مستلقية على فراشي استعدادً للنوم؛ كنتُ أفكر حول الموت وأنني لن أكون هنا يومًا ما أبدًا؛ كنت أفكر بمعنى العدم؛ فكرت أيضًا كيف لي أن أكون هنا الآن، وأنني سأختفي في أحد الأيام!
كانت حقيقة الموت وأنني سأموت في يوم من الأيام تخيفني، لذلك تساءلت عما يعنيه مفهوم الموت، وكيف يجب علي أن أنظر إلى حياتي.
وتؤكد محادثاتي مع الأطفال والأباء خلال سنوات عملي أيضًا بأنني لست الوحيدة بهذه الأفكار في هذا العمر، فقد أكد أرسطو أيضًا أن "جميع البشر بطبيعتهم يسعون من أجل الفهم"؛ لذلك يحاول الأطفال في وقت مبكر من الحياة فهم عوالمهم وفهم الطريقة التي تعمل بها الأشياء، وبمجرد أن يتمكنوا من صياغتها، يبدؤون في طرح أسئلةٍ حول المفاهيم التي يسمعونها والعالم الذي يعيشونه.
وعند بلوغهم سن الرابعة تقريبًا يبدؤون في طرح ما نسميه " بالأسئلة السببية"؛ لماذا بعض الأشخاص لئيمين تجاه الآخرين؟ لماذا علي الذهاب إلى المدرسة؟ لماذا لا تتحدث الكلاب؟
هناك العديد من الأطفال في سن المدرسة الابتدائية من هم منفتحون على ألغاز الحياة الفلسفية؛ حيث يستلقون مستيقظين ليلًا يفكرون بأسئلة مثل هل الإله موجود؟ لماذا يملك العالم هذه الألوان؟ ما طبيعة الوقت؟ هل الأحلام حقيقية؟ لماذا نموت؟ ولماذا وجدنا؟
في إحدى المرات عندما كنت أقيم إحدى الجلسات الفلسفية؛ سألني أحد الأطفال يبلغ من العمر ١٠ سنوات قائلًا: "أريد أن أعرف لماذا نجتهد في العمل و ويقلقنا المال؟ وما الذي سنفعله عندما نكبر؟ مالذي سنفعله بشأن العمل والطعام والمسكن طالما أننا سنموت جميعًا في يوم من الأيام؟ أعني ما الهدف من معنى أن تكون على حيًا؟
على ما يبدو يُظهر الأطفال قدرةً غريزيةً بالتفكر في العناصر الأساسية للحياة والمجتمع بدافع الفضول، على عكس معظم البالغين الذين يعتبرونه أمرًا مفروغًا منه. فنحن على وعينا بتساؤلات الأطفال وطروحاتهم؛ إلا أننا نحن البالغين عادةً ما نتجاهل المعنى العميق وراء ما يقوله هؤلاء الأطفال؛ فنتفاعل مع أسئلة الأطفال العميقة أو تعبيرهم عن الأفكار الفلسفية بالتعليق علىلطافتهم (يقول الأطفال أغرب الأمور) أو بصرف النظر عنهم (إنها لا تفهم ما تقوله)، وليس بأخذهم بجدية.
كما نستخف نحن البالغون بقدراتهم وتحديدًا قدراتهم على التفكير الجاد؛ فالتصورات المتنامية السابقة تحكم تصوراتنا على الأطفال كثيرًا، وخاصة الاعتقاد بأن الأطفال ينتقلون من كونهم كائنات عاجزة نسبيًا إلى أن يصبحوا بالغين قادرين في نهاية الأمر.
وحتى مع اعتبار مرحلة الطفولة بأنها إحدى المراحل المثالية في الحياة، إلا أنهم مصنفون على أنهم "صغار البشر"، كما يطلق عليهم علماء النفس وعلماء الاجتماع بأنهم " بشر غير مكتملين"؛ فالأطفال مازالوا في طور النمو إلى الإنسان الكامل، لكنهم لم يصلوا إليه بعد. وعلى نقيض ذلك، يُعد البالغون بأنهم بشر مكتملون؛ وهذا ما يجعلنا نرى الأطفال على أنهم "بالغون ناقصون"، على حد تعبير العالمِة المعرفية أليسون جوبنيك.
يعود السبب وراء ذلك هو تمجيد الثقافة الغربية للاستقلالية التي تضع الأطفال في وضع مُسيء؛ فبالطبع لا يمكن للأطفال الصغار أن يكونوا مستقلين تمامًا لصغر سنهم؛ لأن هناك الكثير من الأشياء ليتعلموها، والكثير من المهارات ليطوّروها قبل حملهم المسؤولية على عاتقهم، وبسبب هذا الاعتماد - الجسدي والمالي والعاطفي - يكون الأطفال في وضع ثانوي، مع عدم أخذ أفكارهم ووجهات نظرهم بأهمية.
لا ينبغي التقليل من تفكير الأطفال
يعتمد الأطفال على البالغين من أجل نموهم؛ ومن المعقول أيضًا أن يتحمل الكبار مسؤولية رفاهية الأطفال وتنمية قدراتهم المتعلقة باتخاذ القرار؛ إلا أنه مع الأسف كثيرًا ما يكون الشعور بالمسؤولية مصحوبًا بالاستخفاف بقدراتهم على التفكير المستقل. فهناك فرق بين مساعدة الأطفال على النمو بطرق صحية وحمايتهم من القسوة والعنف والمسؤوليات التي تفوق استعدادهم وبين الفشل في تقدير وجهات نظرهم.
ولأنك طفل لا يعني أن أقلل من تفكيرك؛ إلا أن معظم البالغين يواجهون صعوبةً ليتقبلوا قدرة الأطفال على التفكير في المواضيع المجردة، ويظنون بصعوبة فلسفة الأطفال.
ناهيك عن كون الفلسفة إحدى الموضوعات التي لا يألفها الكثير من الناس، ففي الولايات المتحدة لا يوجد تقليد إدراج الفلسفة ضمن مناهج المدارس الثانوية؛ بل يُنظر إليها على أنها اختصاص حصري للبالغين الحاصلين على درجات علمية متقدمة ومعرفة تخصصية على عكس الدول الأخرى مثل دول أوروبا وأمريكا اللاتينية. كما أن للفلسفة سمعة سيئة كونها أحد المقررات الصعبة، وتُقتصر على فئاتٍ معينة؛ فلا يمكن لمعظم البالغين تعلمها فماذا عن الأطفال.
ومعظم البالغين الذين جربوا الفلسفة تعرفوا عليها أثناء دخولهم الكلية؛ حيث كانوا عند سماعهم عن عملي و سردهم لتجربتهم في أخذ دورات دراسية عن الفلسفة في الكلية غالبًا ما يسألونني كيف لها أن تكون مناسبة للأطفال؟ كطالب جامعي عادة ما تتضمن دراسة الفلسفة التعرف على الحجج التي قدمها كل من الفلاسفة الكلاسيكيين والمعاصرين، بالإضافة إلى تطوير مهارات مهمة متصلة بها: ككيفية بناء حجة متماسكة، وتحديد المغالطات والأخطاء الأخرى في المنطق والاستدلال، والتوقع والتفكير في الاعتراضات المحتملة على وجهة نظر فلسفية.
ولا يميل طلاب الفلسفة الجامعيين إلى المشاركة بأنفسهم في مناقشة مفتوحة حول الأسئلة دون الرجوع إلى خبراء الفلسفة، لذلك يعرّف معظم البالغين ممارسة الفلسفة على أنها عمل الفلاسفة المحترفين فقط.
لكن هذا لا يعني أن ما يحدث في الفلسفة الأكاديمية بأنه غير مهم؛ بل هناك قيمة كبيرة في دراسة النصوص الفلسفية الصعبة، واستكشاف تاريخ الأفكار من خلال أعمال الفلاسفة العظماء، وفهم النظريات المعقدة، وتعلم كيفية تطوير حجج فلسفية صارمة. وهذا ليس كل ما في الفلسفة، فهي لا تقتصر على ما يجري في الكليات والجامعات، بل سبقت هذه المؤسسات وهي تتواجد خارج نطاقها.
كل هذه التساؤلات الفلسفية تمثل جزءًا من الإنسان؛ فنحن نتفلسف ونشارك في تقليد موجود منذ آلاف السنين عندما نفكر بأسئلة مثل ما التصرف الصائب لفعله؟ كيف يموت الناس؟ هل هذا الشخص صديقي؟. معظم البالغين الذين يفكرون في الأسئلة الفلسفية ليسوا فلاسفة متمرسين، ولكن هذا لا يمنعهم من النقاش في البحث الفلسفي.
وحقيقة أن الأطفال مبتدئين بالفلسفة لا يعني أنهم لا يمارسونها أبدًا، بل يمكنهم المشاركة في علم الفلسفة حتى إن لم يشاركوا في الاستكشاف الفلسفي من خلال قراءة النصوص الفلسفية أو كتابة الأوراق أو الحصول على درجات علمية.
وبدلاً من تعليم الفلسفة،علينا أن نحاول فتح المجال للأطفال لاستكشاف الأسئلة التي تشدهم. عادةً ما أبدأ بسؤال فلسفي يثير العواطف، إن الأسئلة والأفكار الفلسفية المهمة – مواضيع مثل معنى السعادة، العدل والمساواة، العلاقة بين الحرية والمجتمع، وطبيعة الجمال، والكثير من المواضيع الأخرى – لا تنحصر على أعمال الفلاسفة الكلاسكيين والمعاصرين، بل أيضًا في الكتب المصورة وأدب الأطفال والفن والموسيقى والأفلام والألعاب والفعاليات والكثير من الأنشطة الاعتيادية التي نشارك بها يوميًا.
تكررت الكثير من التساؤلات عن الموت والوفيات أثناء الجائحة
في كل مرة أسأل فيها الأطفال: "ما الأسئلة التي تمر ببالكم؟"، يمضون وقتهم في التفكير وطرح أسئلةٍ فلسفية؛ وفي بعض الأحيان عندما يشاركون في مجموعاتٍ صغيرة؛ في الغالب يطرحون تساؤلاتهم المثيرة للاهتمام كي يكتشفوها، ثم يقضون معظم وقتهم في مناقشة تلك التساؤلات.
تكررت الكثير من التساؤلات عن الموت والوفيات أثناء الجائحة، ففي إحدى جلسات الإنترنت من الربيع الماضي مع طلاب من الصف الرابع، تناقشنا عن ما إذا كان بإمكانك أن تكون سعيدًا وحزينًا في نفس الوقت! أجاب معظم الطلاب بنعم؛ ما دفعنا للتساؤل ثانيةً هل بإمكانك أن تكون سعيدًا تمامًا دون أن تشعر بأي حزن، فأجابت "آفا" إحدى الطالبات: قد تكون سعيدًا وحزينًا في الوقت نفسه. وعلى أننا ننظر للحزن والسعادة بأنهما متناقضان، إلا أنهما قد يرتبطان في بعض الأحيان، فتحدث تلك اللحظات عندما تشعر بالسعادة في حياتك ثم تدرك أنها لن تدوم للأبد، وربما تدوم لوقت طويل. أنا أبلغ من العمر تسع سنوات فقط ولدي حياة كاملة أمامي لأعيشها، لكنني مع ذلك أريد أن أبقى حيّا إلى الأبد وأعلم أنني لن أستطيع ذلك. تلاحظ آڤا هنا أن الحزن قد يأتي مع السعادة في بعض المرات، فهذه المشاعر مرتبطة بمدة الحياة وحقيقة أنها قصيرة: "تلك اللحظات عندما تشعر بالسعادة في حياتك ثم تدرك أنها لن تدوم للأبد"، حيث نشعر بمشاعر الفرح العارم ومعها تذكيرًا بأن الحياة ستنتهي، وأن كل ما نمر به يزول.
تعبّر كلمات آڤا المؤثرة عن الحالة البشرية المحزنة وهي: أننا ميتون وستنتهي حياتنا يومًا ما. ومنذ ذلك الحين وأنا أفكر في تعليقها، وحول الطرق التي يبدو بها الأطفال متأقلمين جدًا مع أن الفناء هو جوهر وجودنا، وأن حياتنا بها ما يسميه الفيلسوف صموئيل شيفلر "الندرة الزمنية"، فنحن نعيش على إدراك أن أيامنا معدودة، واستنتاجنا لحقيقة فناء الإنسان وموته أهم عنصر يجعله إنسانًا.
كنت أتساءل أيضًا عما إذا كنا نكترث كثيرًا لهذا الموضوع في بداية الحياة ونهايتها؛ فعندما يكون مفهوم الموت جديدًا وقريبًا يؤثر على الأطفال؛ والسبب هو أننا ندرك في ذلك الوقت أن حياتنا محدودة. أما في نهاية الحياة يدفعنا واقع اقتراب الموت إلى تقييم كيف عشنا حياتنا، وما بين ذلك ننغمس في متطلبات ومستلزمات الحياة ولا نقضي معظم وقتنا في التفكير في ما يعنيه موتنا المحتوم وكيف نعيش حياتنا، إلا عند فقداننا لشخصٍ عزيز.
مهما كان الوعي بالموت محزنًا ومؤلمًا؛ إلا أنه يساعدنا في معرفة قيمة الحياة، ومنحها معنى عظيمًا، كما قال الشاعر والاس ستيڤنز: " الموت هو أم الجمال".
تذهلني أيضًا نقاط القوة التي يستحضرها الأطفال أثناء استكشافهم الفلسفي في مثل هذه الحوارات، ولا سيما من خلال استعدادهم وقدرتهم على التعامل مع هذه الأسئلة بعفوية وإبداع. رغم أن التفكير الفلسفي المبكر لدى الأطفال يعكس حداثة هذه الممارسة، لكنه يستلزم معها أيضًا الانفتاح على تخيل نطاق مبتكر من الحلول الممكنة.
"قد يدّعي البالغون معرفة ما هو صادق وكاذب، لككن خيالهم محدود عن هذه الاحتمالات"
أما الأطفال فهم يعتبرون الفلسفة مجالًا تخيليًا ماتعًا جدا، فيظهرون ما يشار إليه أحيانًا "بعقلية المبتدئين"، وهي طريقة للإقدام على التجربة من منظور جديد ومتقبل. يشير الكاتب جون بانڤيل إلى الطفولة على أنها "حالة من الدهشة المتكررة باستمرار" حيث "يواجه الطفل أشياءً جديدة وغير معتادة في كل لحظة".
ويوصف الأطفال أحيانًا بأنهم يعيشون في عالم المعقول، فهم منفتحون للتفكير بالخيارات الإبداعية؛ كالنظر إلى العالم من منظور التعجب والانفتاح، ويبدون أقل واقعية بسبب عدم معرفتهم بحقيقة العالم. كما قال أحد الأطفال وهو يبلغ العاشرة من عمره: "لأن البالغين يعلمون الكثير عمّا هو حقيقي وغير حقيقي، فإن خيالهم محدود بشأن الاحتمالات".
كما يميل الأطفال لتقبل نطاق واسع من الأفكار، والتي قد يستبعدها معظم البالغين لكونها مستحيلة ولا تستحق الاهتمام. و في الواقع تؤكد الأبحاث حقيقة تقبل الأطفال لذلك، لأنهم أقل عبئا بالتوقعات حول الطريقة التي يجب أن تكون عليها الأشياء، حيث أنهم مفكرون أكثر مرونة وأفضل في حل المشاكل من البالغين.
تنمو الفلسفة من وجهات نظر الأطفال الجديدة وغير المقيدة لأنهم يتمتعون بقدراتٍ قويةٍ خاصةً في هذه المجالات، فطريقة تفحّص المشكلات الفلسفية تتطلب النظر لطرق التفكير الجديدة والأمثلة الخيالية، والاستعداد للتلاعب بالأفكار.
فنحن عندما ننمو في مرحلة الطفولة نبتعد عن حالة الاستكشاف ويتقيد تفكيرنا أكثر بالمعتقدات الراسخة، لذلك نعتقد أننا نفهم كيف العالم يعمل من حولنا، أو من المفترض أن نفهم ذلك، كما يعمل هذا على تضييق إحساسنا بما هو ممكن، فعقول الأطفال أقل عبئاً بسبب ما قرروا بالفعل أنه مستحيل.
تمنح هذه الحوارات الفلسفية الأطفال دائمًا عدة فرصٍ في إنشاء علاقات مختلفة ومتنوعة مع البالغين. ويختلف نوع هذه العلاقات عن ما هو معتاد في كون الشخص البالغ إما معلّم أو مسؤول و كون هذا الطفل إما طالبٍ أو تابع له. ولأن الأسئلة الفلسفية ليست أسئلة تحلّها الأجوبة الثابتة و النهائية، لذلك لا يحتاج الكبار أن يكونوا خبراء للإجابة عليها "كمستودعات الحكمة".
عوضًا عن ذلك بإمكاننا أن نصبح باحثين مشتركين ونسعى مع الأطفال لفهم البعد الفلسفي لحياة الإنسان أفضل من التحقيق في الأسئلة المهمة والمحيرة لنا جميعًا، وتقدير مختلف التجارب والتوقعات التي يقدمها كلٌ منا لمناقشاتنا.
وعندما يحضر كلٌ من البالغين والأطفال اللقاءات الفلسفية بقدرات مهمة؛ يساهم البالغون في تجارب الحياة وتطويرهم للمفاهيم، وطلاقتهم في اللغة والتفكير؛ بينما يساهم الأطفال بعدم الخوف من التفكير بإبداع، وعدم القلق من ارتكاب الأخطاء أو الظهور بمنظر سخيف، والاستعداد لمشاركة أفكارهم بصراحة.
عندما يخلص البالغون في استماعهم للأطفال ، يتشجّعوا للتعلم منهم
إن الاعتراف بأن الأطفال هم فلاسفة و مفكرين هو اعتراف بحد ذاته يمنحهم فرصة النظر إلى أنفسهم بأنهم مختلفين ومفكرين مستقلين وقيمين. حيث يذكر لنا أحد الأطفال في سن العاشرة معبرًا حول الفلسفة: "أحب أن يكون رأيي موضع تقدير"، وهذا النوع من الحوارات يعزز الاعتراف بوجهات نظر الأطفال الفريدة والمهمة.
وعندما يستمع البالغون للأطفال بإخلاص، وتكون تفاعلاتهم مشتركة، يتحدى هذا تصوراتهم المسبقة عن قدرات وحدود الأطفال؛ فتصبح وجهات نظر الأطفال المميزة أكثر إتاحة للبالغين، فَهم قادرون على تقبل ما يقولونه دون أحكام مسبقة، ويصبحون منفتحين للتعلم منهم.
على سبيل المثال عندما أتفكر في معنى الطفولة؛ أتذكر ما قاله طفل بالعاشرة من عمره:
عندما تفكر في الأمر، فإن مرحلة الطفولة والبلوغ هما فقط فكرتان صنعها الناس، ثم وضعوا حدودًا حولها لإنشاء شيء لا وجود له في الواقع، فليس هناك ما يسمى "أن تكون طفلاً" أو "أن تكون بالغًا"، إنها فقط مجرد مسميات نحن من وضعها، فكلنا بشر.
كما تساءل هذا الطفل أيضًا عمّا إذا كانت الطفولة موجودة على الإطلاق بعيدًا عن المفهوم البشري؛ عندما كان يشير إلى أن الفرق الذي نضعه بين الأطفال والبالغين بأنه فرق غير حقيقي؛ أي أنه يعتمد على طريقة ملائمة بهدف تنظيم الحياة ( على سبيل المثال يجب أن تبلغ الثامنة عشر لتشارك في التصويت) ولا يستند ذلك على أي حقيقة موضوعية. جعلني تعليقه هذا أفكر في طريقة تصنيفنا للأطفال، وعن أهمية نظرتهم للطفولة وما تعنيه لهم، لأنهم يعيشونها الآن بينما أنا لا يمكنني سوى محاولة تذكر ما كان عليه الأمر عندما كنت طفلة.
مع مرور السنوات كنت ملهمة بانتظام لإعادة التفكير في آرائي الخاصة حول بعض الأسئلة الفلسفية التي اكتشفتها مع الأطفال، على سبيل المثال: أدت محادثة مع بعض أطفال الصفوف الابتدائية إلى التشكيك في الرأي المتعارف عليه حول الصداقة وأنها علاقة متبادلة بالضرورة؛ فرأي أرسطو في هذه المسألة يؤكد أن السمة الأساسية التي تحدد الصداقة هي الرعاية والاهتمام المتبادلين، أو ما يسميه "حسن النية": الصداقة متبادلة، كما يتفق معظم الفلاسفة بالمثل. وتفترض الكثير من الأبحاث في هذا المجال أن المعاملة بالمثل ضرورة لاعتبار هذه العلاقة صداقة، فالناس يصنفون كأصدقاء فقط إذا كان كل منهم يعرف الآخر على أنه صديق.
ولكن في محادثة أخرى حول الصداقة، اختلف مجموعة من الأطفال في سن الحادية عشر عامًا في رأيهم؛ فقد فكروا أنه في بعض الأحيان قد يعتبر شخص ما العلاقة بأنها صداقة ولا يفعل ذلك الشخص الآخر، وقد يكون لديهما أفكار مختلفة عما يعنيه أن تكون صديقًا. فقد لاحظ أحد الطلاب أنه في بعض الأحيان يوجد أشخاص قد لا يعاملونك صديقًا، لكن هذا لا يعني أن الصداقة غير موجودة، وأشاروا أيضًا إلى أنه يمكن أن تكون هناك فترات غير متبادلة في العلاقة، وهي عندما يحتاج أحد الأصدقاء أكثر ويعطي أقل. وقالوا إن بعض الصداقات قد لا تكون تبادلية بشكل كامل في معظم الأوقات، لكننا سنستمر في وصفها بالصداقة. لاحظ آخرون منهم أيضًا أن الصداقات تستغرق وقتًا كي تتطور، وهذا الوقت يختلف أحيانًا بين كلا الشخصين في العلاقة الواحدة، لأن الوتيرة التي تتطور بها العلاقة قد لا تكون متبادلة - فقد يشعر أحد الأصدقاء برابط الصداقة قبل الآخر.
لقد لاحظت أن أفكار الأطفال وملاحظاتهم المتعلقة بالصداقة عميقة وثاقبة على وجه الخصوص بسبب أهميتها في حياتهم على ما اعتقد؛ فبمجرد أن يبدأوا الذهاب إلى المدرسة، يقضون معظم ساعات يقظتهم مع زملائهم وهذا أكثر مما يفعله البالغون. كما يعد تعلم الطرق التي تطور الصداقات والحفاظ عليها إحدى المهام الرئيسية في مرحلة الطفولة، فيمكن لأفكار الأطفال حول الصداقة أن تساهم بطرق قيمة في فهمنا الجماعي.
لدى الأطفال الكثير ليقدموه، فإذا إستطعنا التجاوب معهم دون التفكير بأنهم "مجرد أطفال" يمكننا تعزيز المحاورات المتبادلة التي لها القدرة على توسيع وجهات نظرنا وتوثيق علاقاتنا مع الأطفال في حياتنا. ويمكن لأفكارهم أن تذكرنا كيف رأينا العالم عندما كنا أطفالًا وهذا ما يتيح لنا الوصول لأفكارهم. مع ذلك يتطلب منّا الاستماع إليهم أن نكون مستعدين للتخلي عن "الافتراض التلقائي بتفوق البالغين في المعرفة والخبرة"، كما وصفه الفيلسوف غاريث ماثيوز. وأن نتعامل معهم بحقيقة أنه من الممكن تعلم شيء ما منهم.
ممارسة الفلسفة مع الأطفال تدعو البالغين للاتصال مع القدرات الخاصة بالطفولة – التساؤل والفضول، والوعي والخيال النابض بالحيوية، والشعور اللامحدودة بالإمكانيات - لإحياء عالمنا الفلسفي وتوسيعه.