الخميس , 05 ديسمبر 2024 - 4 جمادي ثاني 1446 هـ 7:21 صباحاً
لا يقتصر وصول فيروس المعلومات المضللة إلى الجهلة فقط، فكلما زاد علمك، ازدادت عرضتك للإصابة به
ظهر فيروس خطير جديد في العالم، يمكن أن تصاب به من الحديث من الناس وجهًا لوجه، أو عن طريق الإنترنت؛ المحصّنون منّا ضد هذا الفيروس قلّة، بل إن البعض منّا قد يستقبله مرحّبًا؛ وعلى ما تعلمناه عنه، فإن هذا الفيروس يثبت أنه أدهى في القضاء عليه مما كان يُتوقع.
لا شك أن ظاهرة المعلومات المضللة ليست جديدة، فالأخبار الكاذبة وُجِدت قبل اختراع المطبعة؛ نُشرت أول كذبة صحفية (خدعة القمر العظيمة (1)) في عام 1835؛ تلتها عدة أكاذيب صحفية وخرافات كمطاردة الساحرات الحديثة (2)، أو أساطير الاستعمار التي صورت العبيد وكأنهم كائنات مختلفة عن البشر، وكذا وابل الدعاية المعادية لليهود والألمان خلال الحربين العالميتين، ومكارثية الخوف الأحمر (3)، وحتى الروايات التي صوّرت الشيوعية بصورة مثالية لعيش المجتمعات.
يعج التاريخ بالخداع، إلّا أن ما يختلف اليوم هو سرعة ونطاق المعلومات المضللة التي تمكّنها التكنولوجيا؛ أعطت وسائل الإعلام عبر الإنترنت اليوم صوتًا للفئات المهمشة سابقًا -وهم باعة الأكاذيب المتجولون-، كما عززت أدوات الخداع المتاحة لهم، يكثر نقل الأكاذيب الآن بمساعدة الذكاء الاصطناعي، ومتصيّدو الإنترنت المحترفون(4)، وأنشطة مشاركة المحتوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ حيث تساعد جميعها على زيادة الادعاءات المضللة وتضخيمها، كما جاءت هذه التطورات الجديدة في أعقاب تزايد عدم المساواة، وتراجع المشاركة المدنية، وانفكاك التماسك الاجتماعي، كل هذه الاتجاهات تعرضنا كثيرًأ للغوغائية؛ كما تزيدنا مجموعة من الأبحاث على مدى العقد الماضي قلقاً، إذ تلقي بظلال من الشك على قدرتنا -بل حتى رغبتنا- بمقاومة المعلومات المضللة في مواجهة الأدلة التصحيحية.
أُعطي أشخاص في إحدى التجارب القديمة -في أواخر الثمانينيات- التي تهدف إلى تصحيح المعلومات الخاطئة، موجزات إخبارية من مكان حريق مستودع خيالي غير موجود، فذكر أحدهم خزانة بها مواد قابلة للاشتعال -علب طلاء زيتي وأسطوانات الغاز-، وأفاد آخرون بوجود «دخان كثيف وزيت»، و«ألسنة لهب» و«أبخرة سامة» عرّضت حياة رجال الإطفاء للخطر؛ الحقيقة أن موجز محقق الشرطة في القضية يقول: إن الخزانة كانت فارغة والحريق قد أًخمد.
كان على الأشخاص المشاركين في التجربة الإجابة على سلسلة من الأسئلة بعد قراءة موجزات الأنباء، حتى يتحققوا من فهمهم للتصحيح الذي كتبه محقق الشرطة في موجزه، قد يبدو هذا اختباراً بسيطاً، إلّا أن الناس فشلوا فيه مراراً وتكراراً في العديد من الدراسات. في إحدى التجارب، علّل ما يصل إلى 90% من الأشخاص الطبيعة السامة للنار أو شدتها بعلب الطلاء الزيتي وأسطوانات الغاز رغم خلوّ الخزانة، وما قد يفاجئك أكثر هو إقرار المشاركين بخلوّها عندما سُئلوا بشكل مباشر، كما حصل الباحثون عن نتائج مماثلة عدة مرات، ومن أقوال المشاركين ما ينصّ على النفي المباشر «لم تكن هناك علب طلاء أو اسطوانات غاز»، ولا يزال أكثر من نصف الأشخاص يشيرون إلى المعلومات المضللة على وضوح التصحيح. إن من الملفت حقاً تشبّث الناس بالباطل رغم علمهم بزيفه؛ يوضّح ذلك إمكانية تسلل الأكاذيب إلى عقولنا، وإصدار أحكامنا، وتغيير قراراتنا، حتى لو فُضح زيفها؛ يُسمّى ذلك في الأدبيات بــــ«التأثير المستمر للمعلومات المضللة».
يُفسّر أستاذ العلوم السياسية في جامعة إكستر «جيسون ريفلر» السبب وراء «التأثير المستمر للمعلومات المضللة» فيقول: «نميل إلى أخذ المعلومات الواردة كما هي، لأن وجود المجتمع البشري يعتمد على قدرة الناس على التفاعل وعلى افتراض النية الحسنة، كما يمكن أن تتخذ الأكاذيب أشكالًا خفيّة وماكرة فتتظاهر بالشرعية، مما يصعّب علينا كشفها دون تحليل دقيق أو تحقق منها؛ لذا تجد أن أولئك المنهكون عقلياً في حياتهم -ربما بسبب عملهم- قد لا يبذلون أي جهد للتحقق، فيصدقون الأكاذيب بسهولة، وبمجرد أن تخزّن المعلومة الخاطئة في الذاكرة -ولو بشكل ضعيف- سيقاوم العقل أي تصحيح بعدها».
أحد التفسيرات الأكثر شيوعًا لـ«التأثير المستمر للمعلومات المضللة»: هو أنه خطأ في تصور الأذهان لما حدث، أو أنه ما نخبر به أنفسنا عما حدث، فإذا لاءمت الكذبة منطق الأحداث، سيترك تصحيحها فجوة في التسلسل المنطقي للرواية. احتاجت الرواية في المثال السابق إلى علب الدهان الزيتية وأسطوانات الغاز، فهي المبرر الوحيد للدخان الكثيف وقوة الحريق، ونفي وجودها سيترك فجوة في السلسلة السببية للأحداث في عقولنا، لذا من المنطقي التمسك بكل من الحقيقة الفعلية والكذبة التي تتناسب معها وتكملها -مع الاحتفاظ بهما منفصلين- لتحقيق الاتساق في الرواية؛ قد يكون هذا هو السبب، فكما تظهر الدراسات يمكننا أن نكون مدركين للحقيقة جيدًا، ومع ذلك لا نزال نسمح للكذبة بالتسلل لعقولنا.
أول من تصلهم المعلومات المضللة هم كبار السن بعد تصويبها
تقاوم المعلومات المضللة التصحيح بشدة عند تكرارها، فبمجرد تكرار شيء ما بشكل كافٍ -كالادعاءات المثيرة على وسائل التواصل الاجتماعي-، تنتقل أساطير عصرنا الحالي من شخص لآخر، ويمكن أن تخدعنا في اعتبارها صحيحة لكونها مألوفة لنا؛ يشير تأثير «الحقيقة الوهمية» إلى أنه كلما شاع الأمر وصدقناه، كلما زاد احتمال تصديقنا له، وهو بالضبط ما يفعله تكرار الادعاء المضلل، جعله يسير بسلاسة إلى عقلك من خلال تقوية المسارات العصبية المرتبطة به؛ مما يشكل تحديًا للتصحيح المعلومات المضللة المكررة بكثرة. على سبيل المثال: تصحيح أسطورة (استماع طفلك لموزارت لن يعزز معدل ذكاءه)، الجملة قصيرة و"لن" الواقعة في منتصفها هي كل ما يميز الأسطورة عن تصحيحها؛ لذلك من السهل تصور أنه مع مرور الوقت وضعف الذاكرة ستختفي كلمة "لن" تاركة سمفونيات موزارات والأطفال الأكثر ذكاءً مرتبطين ببعضهم البعض في الذاكرة، مما يجعل الأسطورة مألوفة جدًا؛ فهل يمكن للتكرار أن يتسبب في فشل التصحيح أو حتى يؤدي إلى نتائج عكسية؟
في عام 2017، بدأ عالم الإدراك بجامعة بريستول «ستيفان ليفاندوفسكي»، واثنان من زملائه من جامعة أستراليا الغربية بالتحقيق في هذا الاحتمال، أجروا اختباراً يقيس مدى الاعتقادات الخاطئة لدى الأشخاص الخاضعين للاختبار في عشرين خرافة وعشرين حقيقة، صححوا الخرافات بطريقة كررتها مرتين أخريين؛ قلل التصحيح -على الفور وكذلك بعد 30 دقيقة- بشكل كبير من معتقدات الأشخاص في العبارات الخاطئة ومرجعيتهم إليها، ولكن بعد أسبوع واحد فقط عادت المعتقدات إلى ما يقارب ضعف مستوياتها المصححة.
إن كبار السن هم أكثر من يتعرّضوا من الناس بـ«فيروس المعلومات المضللة» عند تكرارها حتى بعد تصويبها؛ نظرًا لضعف الذاكرة مع تقدم العمر، ففي إحدى الدراسات المماثلة مع كبار السن، وجد فريق أنه بعد ثلاثة أسابيع، انتهى المطاف بأشخاص تزيد أعمارهم عن الخامسة والستين عامًا إلى إعادة تذكر معظم الأساطير التي رويت على أنها حقائق، ولم يصبهم شيئًا -أي حيث يؤدي التصحيح إلى زيادة الإيمان بالخرافة-، ويعتقد الباحثون الآن أن هذه التأثيرات نادرة إن وجدت على الإطلاق مع بعض الأدلة السابقة المخالفة؛ وعلى أن تكرار ذكر الأسطورة يمكن أن يقويها، إلا أن تكرارًا واحدًا أثناء التصحيح يبدو آمنًا ومرغوبًا فيه؛ لأنه يجعل الأسطورة أكثر مرونة من خلال تنشيطها في الذاكرة.
تسلّلت المعلومات المضللة لعقول العديد من الناس في كل المجتمعات خلال السنوات الأخيرة؛ فاجتهد العلماء بالبحث عن أكثر الطرق فعالية لمواجهتها، وفي هذا الصدد، أصدر ليفاندوفسكي مؤخراً «كتيب كشف الزيف» عبر الإنترنت، وهو عبارة عن مجموعة من أفضل التجارب لاثنين وعشرين باحثاً من أكثر الباحثين نشاطًا في هذا المجال، رشح المساهمون فيه أكثر من خمسين نتيجة ذات صلة وأكثر من ثلاثين توصية عملية، وصنّفوها على أساس أهميتها وقوة الأدلة المتاحة، ونجح المؤلفون إلى أن كشف الخرافة بنجاح يساعد على تقديم تفسير سببي بديل لملء الفجوة العقلية التي يمكن أن يتركها تصحيح الخرافة، كما تعمل الحجج المضادة على توضيح التناقضات الموجودة في الخرافة، مما يفرق الصواب من الخطأ؛ الاستراتيجية الأخرى هي إثارة الشكوك حول مصدر المعلومات المغلوطة، فعلى سبيل المثال: قد تكون أكثر انتقادًا للمسؤولين الحكوميين الناكرين لوجود احتباس حراري عالمي يسببه الانسان عند شكك بوجود مصالح تجارية لهم تقف وراء إنكارهم.
ازداد تردد الأشخاص في التطعيم عمّا كانوا عليه قبل الدراسة
يشكك بعض الباحثين في الأهمية العملية لاستراتيجيات فضح الزيف المعمول بها في التجربة، وضّح لي ذلك ريفلر فقال: «هل الآثار «الإيجابية» للتدخلات التي نشهدها آثارًا حقيقية في إحداث تغييرات فعليّة وطويلة الأمد في دقة معتقدات الناس؟ أم أن من تصحح له المعلومة سيصدقك لقولك له أن يفعل، وقد تخبره بنقيض هذا التصحيح وسيصدقك؟» يبدو سؤال ريفلر منطقيّاً في عالم تحولت فيه كل من وسائل الإعلام ومنصات الإنترنت إلى بؤر للمعلومات المضللة. قال لي «جون كوك» باحث اتصالات تغير المناخ في جامعة جورج ميسون في فيرجينيا: «قد اكتب الرد المثالي لكشف زيف الأسطورة تمامًا، وقد أتمكن من إيصاله للشخص المناسب، ولكن ما الذي سيحدث إذا عاد إلى المنزل وبدأ بمشاهدة «فوكس نيوز» فأذاعت القناة عليه معلومات مضللة لخمس ساعات متواصلة؟ سيتم محو ردّي بالتأكيد». قد يسوء الأمر أكثر، لنفترض أن الرد المثالي وصل إلى شخص في حاجة إلى التخلص من الوهم، بل ونجح في إصلاح معتقداته الخاطئة؛ هل ستتغير مواقف هذا الشخص وسلوكه وفقًا لذلك؟ إذا أخبرت الناس أن 97% من علماء المناخ يتفقون على حقيقة ظاهرة الاحتباس الحراري، تُظهر الدراسات أن قناعتهم بذلك ستزيد لإجماع الخبراء حول هذا الموضوع، ولكن يبقى من غير الواضح ما إذا كان هذا الوعي الأكبر سيترجم إلى عمل -على سبيل المثال: دعم سياسات الحد من الكربون-.
تتباين الأدلة، ويثير السؤال «جدلاً وخلافًا جوهريًا» بين الباحثين، كما يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة نورث وسترن في إلينوي «جيمس دروكمان»، ولكن حتى في الدراسات التي وجدت تأثيرًا غير مباشر على النوايا، فإن هذا التأثير ضئيل؛ بعبارة أخرى: يمكنك إيصال الحقائق للناس، بل ويمكنك حملهم على قبول تلك الحقائق لكن ذلك قد لا يغير من الواقع شيئًا.
يثير موضوع اللقاحات القلق لتجسد أحد أبرز الأدلة على هذا الاحتمال فيه؛ عمل ريفلر مع عالم السياسة «بريندان نيهان» في كلية دارتموث في نيو هامبشاير، في دراسة عام 2016، اختبروا فيها طريقتين لكشف الخرافة القائلة بأن لقاحات الإنفلونزا تسبب بالفعل الإنفلونزا -وهي خرافة مسؤولة جزئيًا عن معدلات التطعيم المنخفضة وآلاف الوفيات التي يمكن الوقاية منها في الولايات المتحدة-، اطلعت إحدى المجموعات على إفادات تصحيحية رسمية من المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، بينما تلقت مجموعة أخرى معلومات حول مخاطر عدم التطعيم؛ لم تظهر هذه المجموعة الأخيرة أي تغيير في المعتقدات الأسطورية، بينما انخفض معدل تصديق الأسطورة بشكل كبير في مجموعة الإفادات المصححة، حتى بين أكثر الموضوعات تشككًا؛ بدا الأمر وكأن التصحيح قد نجح ببراعة، ولكن ما يهم ريفلر في النهاية نوايا المشاركين في التطعيم وليس اعتقاداتهم حوله، وللأسف لم ينوي أحد التطعيم إطلاقاً في هذه العينة من المشاركين في الدراسة، بل وأصبح المترددون كثيرًا في التطعيم، أقل استعدادًا للتطعيم مما كانوا عليه قبل الدراسة.
لم يستطع ريفلر تسمية أي بحث أظهر أن نقل سلامة اللقاحات (أو تسليط الضوء على مخاطر رفضها) كان له تأثير إيجابي على نوايا الناس في التطعيم عندما تحدثت إليه؛ صُدمت في تلك اللحظة من مقابلتنا، بدا تجاهل المعلومات حتى في مسألة الحياة والموت أمراً سخيفاً جدًا، سألت ريفلر: «هل وجدت ذلك مخيّباً للآمال؟» أجاب بإنه معتاد على ذلك، «حياتي المهنية مليئة بالعمل المحبط، مزحتي المعتادة هي أنه إذا كان ذلك سيئًا للعالم، فمن المحتمل أن يكون مفيدًا لبحثي».
نحتاج إلى إعادة النظر في براءة المستقبِل لفيروس المعلومات المضللة؛ لفهم الطبيعة الخبيثة لهذا الفيروس تمامًا، من السهل أن نرى أنفسنا ضحايا لخداع الجهات الخبيثة، ونرى أيضًا أن التضليل قد يحدث لأشخاص آخرين؛ تتأثر بعض الجماهير بسهولة بالغوغائية والفضيحة، قال لي أحد الأصدقاء: «المشكلة أن الناس كالخراف». سمعت هذه الفكرة يتردد صداها مرارًا وتكرارًا من الآخرين، وكان المعنى الضمني دائمًا هو أنهم لم يكونوا مثل هؤلاء الأشخاص الآخرين المضللين، كلّا: نحن درسنا، وتعلمنا أن نفكر، وبذا أصبحنا محصنين ضد الخداع، ولكن كما اتضح فإن تصديق المعلومات المضللة لا يقتصر على الجهلاء فقط: يمكن أن يتحول أولئك الذين يبدون أقل عرضة للإصابة بفيروس المعلومات المضللة إلى الأسرع استقبالاً له.
يأتي الدليل الصادم على هذا الاحتمال من «دان إم كاهان» أستاذ القانون وعلم النفس في جامعة ييل، الذي درس كيفية تقييم الناس العاديين للمخاطر المجتمعية المعقدة؛ يحاول أحد أسئلة بحثه تسليط الضوء على التفاوت الدراماتيكي أحيانًا بين الرأي العام والأدلة العلمية، بدأ كاهان ومجموعة صغيرة من الباحثين في إزالة الغموض عن هذا التباين فيما يتعلق بالاحتباس الحراري في عام 2010، رغم الإجماع بين علماء المناخ في ذلك الوقت، فقد اعتقد 57% فقط من الأمريكيين أن هناك دليلًا قويًا على ظاهرة الاحتباس الحراري، ورأى 35% فقط أن تغير المناخ يمثل مشكلة خطيرة؛ كتب كاهان: "لم تعرف المجتمعات البشرية بهذا القدر قط عن كيفية التخفيف من المخاطر التي تواجهها، رغم ذلك تصرّ على فعل القليل منها فقط".
يرى أحد التفسيرات المعيارية، والذي يسميه كاهان "أطروحة الفهم العلمي": أن الناس ليس لديهم فهم كافٍ للعلم، ولن يبذلوا جهداً في التفكير العقلاني المدروس اللازم لفهم هذه القضايا المعقدة في كثير من الأحيان، وهذا تفسير معقول، لكن كاهان يعتقد أنه لا يفسّر ما يكفي.
طلب رأي الناس بشأن تغير المناخ هو أيضًا سؤالهم عن هويتهم وتوجهاتهم السياسية والفكريّة
أجرى كاهان ومعاونوه دراسة عام 2010 ونُشرت في مجلة «نيتشر» عام 2012، قاموا فيها بقياس المعرفة العلمية والحسابية لدى المشاركين ووضعوها في الحسبان مقابل مخاطر الاحتباس الحراري المتصورة لديهم؛ توصلت النتائج إلى أن كلما زادت المعرفة لدى المشاركين، زاد تقاربهم نحو الإجماع العلمي، ولكن المثير للدهشة هو كشف البيانات أن أولئك الذين سجلوا درجات عالية في التسلسل الهرمي والفردية -القيم المميّزة للنظرة المحافظة- أظهروا نمطًا معاكسًا: ينخفض قلقهم بشأن تغير المناخ كلما زادت معرفتهم بالعلوم والحساب، ؛ فما المبرر وراء هذا التناقض الصارخ؟
يرى كاهان أن مسألة الاحتباس الحراري تثير معتقدات شخصية مترسخة جدًا، بدلاً من كونها مسألة ذكاء أو تفكير نقدي؛ لذا فإن طلب رأي الناس بشأن تغير المناخ هو أيضًا سؤالهم عن هويتهم وتوجهاتهم السياسية والفكريّة بطريقة ما، كما إن الإقرار بمخاطر الاحتباس الحراري عند المحافظين يعني قبول الحاجة إلى تخفيضات جذرية لانبعاثات الكربون -وهي فكرة تتعارض تمامًا مع القيم المتجذّرة في صُلب هويتهم، والتي يسعون جاهدين لحمايتها من خلال رفض فكرة تغير المناخ. وجد كاهان نتائج مشابهة حول قضايا اجتماعية أخرى تمس الهوية، مثل التحكم في الأسلحة، والطاقة النووية، والتكسير الهيدروليكي، ولم تُر هذه النتائج في الموضوعات التي لا تتصادم مع الهوية مثل الأطعمة المعدلة وراثيًا والمحليات الصناعية. يميل الناس إلى البحث عن المعلومات وفهمها بطرق متحيزة تتوافق مع معتقداتهم السابقة في الحالات التي يكون فيها لدوافع حماية الهوية دورًا رئيسيًا، فقد يركّزون فقط على المصادر التي يتفقون معها ويتجاهلون وجهات النظر المغايرة، وقد يصدقون الادعاءات الموافقة لأفكارهم دون تفكير للحظة، ولكن لا يدخرون جهدًا في العثور على ثغرات في العبارات المغايرة لأفكارهم؛ فقد كان ألمع الناكرين لتغير المناخ ببساطة أفضل من أقرانهم في الأدلة المضادة. يشير هذا إلى نتيجة محيرة: أكثر من تصلهم من الناس المعلومات المضللة هم أكثر الناس دراية بيننا وليس اقلهم في حال كانت تغذي معتقداتهم وهوياتهم؛ وعلى أن معظم الأبحاث المتاحة تشير إلى تحيز المحافظين، إلا أن الليبراليين ليسوا بريئين أيضاً.
أجرى أستاذ علم النفس بجامعة ييل والذي يعمل حاليًا في جامعة ستانفورد «جيفري كوهين»، دراسة في عام 2003، طلب فيها من المشاركين تقييم برنامج تدريب وظيفي تموله الحكومة لمساعدة الفقراء، كانت جميع الموضوعات ليبرالية، لذلك من الطبيعي أن الغالبية العظمى 76% فضلت البرنامج، ولكن النتائج انعكست تمامًا عندما تم إخبار المشاركين أن الديمقراطيين لا يدعمون البرنامج فعارضه 71%. تكررت هذه النتيجة مع كوهين في سلسلة من الدراسات التي شارك فيها الليبراليين والمحافظين، فأظهرت أن الأشخاص سيدعمون السياسات التي تتعارض بشدة مع توجهاتهم السياسية إذا اعتقدوا أن أشخاص آخرين يشاركونهم نفس التوجهات يدعمون تلك السياسات؛ ونسب المشاركين تفضيلاتهم إلى المعايير الموضوعية والأيديولوجية الشخصية رغم التأثير الاجتماعي الواضح للغريب، إلا أن المشاركين ظلوا غافلين عنه؛ لن تفاجئ هذه النتائج علماء النفس الاجتماعي، الذين شهدوا قوة تأثير الجماعة على الفرد في دراسات كثيرة، ومع ذلك فإن معظمنا بلا شك سوف يجفل من فكرة التبعية وأن أفكارنا وأفعالنا قد لا تكون ملكنا بالكامل.
إن التوافق مع معتقدات المجموعة أمر منطقي بالنسبة لكاهان؛ فالتركيز على تحسين الروابط الاجتماعية للفرد مهم جدًا؛ نظرًا لأن لكل فرد تأثير ضئيل فقط على القرارات الجماعية، وفي نهاية المطاف يبقى الانتماء إلى مجتمع هو مصدر حيوي لتقدير الذات، ناهيك عن الصحة، بل وحتى البقاء على قيد الحياة. يواجه الأشخاص المنبوذون أو المعزولون اجتماعيًا مخاطر متزايدة للإصابة بالعديد من الأمراض وكذلك الموت المبكر؛ لذا يرى كاهان أن الدافع لمواءمة معتقداتنا وسلوكياتنا مع جماعاتنا، حتى عندما تتعارض مع معتقداتنا، هو أمر «عقلاني للغاية»، ومن المفارقات أن الخيارات الفردية العقلانية يمكن أن يكون لها عواقب جماعية غير منطقية، تتفوق العواطف على الأدلة عندما تسود الارتباطات الجماعية، فيؤدي الخلاف الناتج عن ذلك إلى إعاقة العمل في القضايا الاجتماعية المهمة.
امتد الخلاف العام إلى فكرة الحقيقة نفسها في الآونة الأخيرة؛ فأصبح مصطلح (ما وراء الحقيقة) هو كلمة قواميس أكسفورد للعام في عام 2016، وأصبح يصف الانتخابات الرئاسية الأمريكية في ذلك العام واستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كتب ليفاندوفسكي في ورقة بحثية عام 2017: «تجاوزنا المعلومات المضللة، فمشكلة (ما وراء الحقيقة) ليس في حجمها، المشكلة هي كونها نافذة على واقعٍ بديل تميّز بالبروز العالمي للشعبوية» تحولت الأكاذيب في هذا الواقع إلى تعبير عن الهوية، وشكل من أشكال عضوية المجموعة، فمثّل الشعبويون -في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وألمانيا، والنمسا، وإيطاليا، وبولندا، والبرازيل، والهند-، احباطهم من الوضع الراهن وسعوا لتأليب «الشعب» على «النخب»، ومهاجمة ما يسمى بالقيم النخبوية وهي: التعليم، والشهادات، والخبرات.
يبدو الكذب في القصة الشعبوية كمناهض للمؤسسة، ويُضعِف الحقيقة كقاعدة اجتماعية، هذا هو فيروس المعلومات الخاطئة في أفظع صوره: حين يقلل من أهمية الصحة (في هذه الحالة، للدولة) ويوافق الجسد المستقبل للفيروس على الإصابة مثلما أثبِت ذلك بشكل بياني أثناء اقتحام مبنى الكابيتول الأمريكي في يناير؛ (الشيء الجيد الوحيد الذي يمكن الخروج به من هذا التمرد هو اتخاذ إجراء صارم فوراً ضد البائعين المتجولين للمعلومات المضللة على تويتر الذي حظر الرئيس آنذاك دونالد ترامب وأوقف آلاف الحسابات المرتبطة بكيو أنون(5)).
تغيير نظرتنا لمعتقدات الآخرين أسهل من تغيير معتقداتنا نفسها
أصبت باليأس من كل المراوغات المعرفية والتوجهات الشخصية وغرائز القطيع التي يمكن أن تجردنا من دفاعاتنا ضد آلية المعلومات المضللة دائمة التطور، ثم قابلت «إليزابيث ليفي بالوك» عالمة النفس في جامعة برينستون التي تدرس الحد من التحيز، وهو مجال يبدو أن قرنًا من البحث فيه أنتج العديد من النظريات، والقليل جداً من النتائج العملية. قادت بالوك مشروعًا طموحًا للحد من الأعمال العدائية العرقية في جمهورية الكونغو الديمقراطية في عام 2006، فمزجت عددًا من النظريات البارزة لإنشاء "مزيج من العلاجات": دراما إذاعية، قامت فيها شخصيات من مجتمعات مختلفة بنمذجة التعاون والثقة المتبادلة؛ برنامج حواري قرأ مضيفه رسائل للجمهور مليئة برسائل التسامح، والتي شجعت المستمعين على وضع أنفسهم في مكان أعضاء خارج الجماعة، لم ينجح أي منها وبقي التحيّز راسخاً كما كان دائماً بعد عام من الإذاعة.
كان هذا "لغزًا تجريبيًا ونظريًا" لبالوك، والذي دفعها للتساؤل عما إذا كانت المعتقدات هي المتغير الخاطئ الذي يجب استهدافه، فلجأت إلى الأعراف الاجتماعية، مدركة أن تغيير ما نعتقد أن الآخرين يعتقدونه أسهل من تغيير معتقداتنا نفسها. اختبرت بالوك نهجًا جديدًا للحد من نزاع الطلاب في ستة وخمسين مدرسة إعدادية في نيوجيرسي في عام 2012، أشارت بعض الأدلة إلى أن التنمر لا يسببه فقط القليل من الأطفال العدوانيين، بل هو أمر معتاد في المدرسة، يستمر بسبب المتنمرين والضحايا والمتفرجين، يخالف هذا الاعتقاد السائد. يستمر التنمر لاعتباره أمرًا معتاداً، بل وحتى مرغوبًا فيه، بينما يُنظر إلى التحدث علانية على أنه خطأ، فكيف يمكننا إذاً تغيير ثقافة سائدة؟ افترضت بالوك: «من خلال التأثير الاجتماعي، نحن نربي داعمين لهذه لثقافة، ونسمح لهم بنقلها بين أقرانهم». كان لدى بالوك مجموعة من الطلاب في بعض المدارس يؤيدون علنًا سلوكيات مناهضة للتنمر ويدعمونها، الأمر الذي جعل هذه المدارس تسجّل انخفاضًا كبيرًا في النزاعات المبلغ عنها (30% في المتوسط، وما يصل إلى 60% في أحسن الحالات).
تساءلت مؤخرًا عما إذا كانت المعلومات المضللة كالعنف المدرسي، أصبحت جزءًا من الثقافة إذا استمرت؛ لأن البعض منا يشارك بنشاط فيها، والبعض يتفرج ويسمح لها بالاستمرار، يجب علينا في هذه الحالة ألّا ننشغل بإصلاح المعتقدات الخاطئة لدى الناس، ونركز أكثر على تغيير تلك الأعراف الاجتماعية التي تجعل من المقبول خلق المعلومات المضللة ونشرها ومشاركتها والتسامح معها. تُظهر بالوك طريقة واحدة للشروع بذلك عمليّاً: العمل الفردي الظاهر علانية الذي يصل إلى أكثر من يمارس هذه السلوكيات من الناس؛ هناك أيضاً طريقة أخرى: قيود أكثر صرامة لمنصات التواصل الاجتماعي، كما لأفعالنا نحن دوراً محوريّاً أيضاً، قال عالم الأحياء الأسكتلندي «دارسي وينتوورث طومسون» في عام 1917، «كل شيء على ما هو عليه لأنه وصل إلى هذا الحد»؛ يقف كل واحد منا بين تواطؤنا في سوء هذا العالم كما هو وقدرتنا على جعله كما يمكن أن يكون.
____________________________
(1) خدعة القمر العظيمة: هي سلسلة من ست مقالات كتبها ريتشارد أدامز لوك ونشرت في صحيفة نيويورك صن في 25 أغسطس 1835، ادعت المقالات وجود حياة على سطح القمر من إنسان وحيوان وطيور، وقد استدل على وجود تلك الحياة عبر اكتشافه لقنادس تسكن بأكواخ بدائية جدًا، ووجود جنس بشري طائر، وقد لقبهم باسم الإنسان الخفاش، ووجود معبد ذهبي ذو شكل غريب وغامض. وقال العالم الفلكي الشهير السير جون هيرشل، أنه من خلال النظر من تلسكوبه المعظم شاهد تلك الحياة، فوصف تضاريس كاملة للقمر، شبيهة بحد كبير لتضاريس الكرة الأرضية بما عليها من مساحات خضراء شاسعة، وغابات، وبحار ومحيطات، وسلاسل الجبال وسهول ووديان، حتى ما بناه الإنسان من أهرامات لم تسلم من تلك الخدعة.
(2) مطاردة الساحرات هي: عملية بحث واضطهاد الأشخاص الذين يشتبه بكونهم يمارسون السحر أو الشعوذة من قبل الكنيسة الكاثوليكية بداية ثم البروتستانتية متحدتين في السلطة المؤقتة، وغالبا ما انطوت على ذعر أخلاقي وهستيريا جماعية وحتى إعدامات بدون محاكمة، والمحاكمات لم تكن سوى مهزلة، مغطاة بمظهر الاستجواب وفي الواقع كانت في اتجاه واحد.
(3) المكارثية هي: هو سلوك يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون أدلة، ينسب هذا الاتجاه إلى عضو بمجلس الشيوخ الأمريكي اسمه جوزيف مكارثي. الخوف الأحمر هو: وصف فترات المعارضة الشديدة لـ الشيوعية داخل الولايات المتحدة، تأتي كلمة «الأحمر» من لون علم الاتحاد السوفياتي، وكلمة «الخوف» تأتي من حقيقة أن كثير من الأمريكيين كانوا خائفين من دخول الشيوعية إلى الولايات المتحدة. كانت هناك فترتين من (الخوف الأحمر) حدثت الفترة الأولى بعد الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية والثانية أثناء الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية.
(4) المتصيّد عبر الانترنت: هو شخص يساهم بتعليقات أو كلام مثير للجدل.
(5) كيو أنون نظرية مؤامرة من ابتداع اليمين الأمريكي المتطرّف تتناول بالتفصيل خطّة سرية مزعومة لما يُسمّى «الدولة العميقة في الولايات المتحدة» ضدّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وأنصاره وجوهرها هو: وجود مجموعة سرية دولية من عبدة الشيطان والمتحرشين بالأطفال يحكمون العالم، بصورة أساسية، وهم المسيطرون على كل شيء. فهم يحركون السياسيين، ويسيطرون على وسائل الإعلام، وعلى هوليوود، ويُخفون وجودهم وكانوا مستمرين في حكمهم للعالم لولا انتخاب دونالد ترامب رئيسًا.