الأحد , 10 نوفمبر 2024 - 8 جمادي الأول 1446 هـ 6:54 مساءً
ترجمة: سهيلة الصادق، ريم عوضه، مثايل الشمري، أثير الشمري، ريم آل فاضل.
كاثرين ستينسون، زمالة ما بعد الدكتوراة في الفلسفة وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي في مركز العلوم والفكر بجامعة بون في ألمانيا، وفي مركز ليفرهولم لمستقبل الذكاء بجامعة كامبريدج.
يُعد علم فِراسة الدماغ من العلوم القديمة، الذي تشعر أنه يُذكر فقط في كتب التاريخ بين فصل يسرد حكايا مريقي الدماء وآخر يصف الدرَاجات البرية القديمة، نظن أن الحكم على قيمة الأشخاص من حجم جماجمهم وشكلها هي إحدى الممارسات التي عفا عليها الزمن، ولكن ها هو علم فِراسة الدماغ يطل بعقده مرة أخرى.
وعد مدربو خوارزميات التعلم الآلي الشركات الحكومية والخاصة في السنوات الاخيرة بإمكانية جمع كل المعلومات من مظهر الأشخاص الخارجي، كما تدعي عدة شركات ناشئة أنها قادرة الآن على استعمال الذكاء الاصطناعي (AI) لمساعدة أصحاب العمل على اكتشاف السمات الشخصية للمرشحين للوظائف من تعابير وجوههم، وكانت الحكومة الصينية رائدة في استعمال كاميرات المراقبة التي تحدد وتتتبع الأقليات العرقية، وكشفت تقارير عن تركيب بعض المدارس في الصين أنظمة كاميرات تعاقب الأطفال تلقائيًا على عدم الانتباه وذلك من حركة رؤوسهم وتعابير وجوههم الدقيقة كحركة الحاجبين.
ولعل أشهرها ما زعمه باحثا الذكاء الاصطناعي شياولين و((Xiaolin Wu شي تشانغ (Xi Zhang) قبل بضع سنوات من أنهما دربا خوارزمية لتحديد هوية المجرمين من ملامح وجوههم بدقة 89.5 في المائة، ولكنهما لم يؤيدا بعض الأفكار المتداولة في القرن التاسع عشر عن المظهر الخارجي والشخصية، لاسيما أعمال تشيزري لومبروزو (Cesare Lombroso)، عالم الجريمة الإيطالي والذي عرف بمقولته: ”إن المجرمين كائنات وحشية بدائية، يمكن التعرف عليهم من جباههم المنحدرة وأنوفهم المعقوفة كمنقار صقر.“ ومع ذلك فإن محاولة الدراسة الحديثة التي تبدو عالية التقنية لانتقاء ملامح الوجه المرتبطة بالإجرام مستعارة مباشرة من طريقة "التصوير المركب" التي طورها – العالم والمستكشف والباحث الفيكتوري الخبير –فرانسيس جالتونFrancis Galton) )، والتي تتضمن جمع صور لوجوه مجموعة أشخاص من فئة معينة للعثور على السمات التي تدل على حالة الشخص مثل: الصحة والمرض، أو صفاته مثل: الجمال والإجرام.
انتقد خبراء التكنولوجيا تقنيات التعرف على الوجه هذه لأنها "لا تختلف عن علم فِراسة الدماغ بشيء"، وقد ربطوها بعلم تحسين النسل، وهو علم زائف لتحسين السلالة البشرية بتحفيز ذوي الجينات الوراثية الأفضل على التناسل، وقد استعمل جالتون مصطلح "تحسين النسل" عام 1883 لأول مرة وعرّفه بأنه جميع العوامل التي تؤدي إلى زيادة فرص تكاثر الصفات العرقية أو الجينية الأفضل بطريقة انتقائية.
في بعض الحالات تهدف هذه التقنيات إلى منع أصحاب الصفات غير المرغوب فيها من التناسل، وفي حالات أخرى قد لا تهدف إلى هذا ولكنها النتيجة المتوقعة، لكن لماذا نرفض الخوارزميات لمجرد أنها مرادف لعلم فِراسة الدماغ؟ هل نعني أن هذه الأساليب خاطئة علميًا ولا تُجدي نفعًا، أم أن استعمالها يتنافى مع القيم الأخلاقية؟
أُسيء استعمال علم فِراسة الدماغ على مر التاريخ، ولطالما كانت مساعي الانتقادات الفلسفية والعلمية متشابكة، مع أن هذا قد تغير مع مرور الوقت، وقد اعترض منتقدو علم فِراسة الدماغ في القرن التاسع عشر على محاولة هذا العلم تحديد مواقع الوظائف التنفيذية المختلفة في الأجزاء المختلفة من الدماغ، وعدّوا ذلك هرطقة لأنها دعت إلى التشكيك في الأفكار المسيحية حول وحدة الروح، ولكن ما يثير الاهتمام هنا هو أن محاولة التعرف على شخصية الفرد وذكائه بالاستناد إلى حجم رأسه وشكله لم تُعدّ مشكلة أخلاقية كبيرة، بخلاف اليوم إذ لم تُعد فكرة تحديد مواقع الوظائف التنفيذية في الدماغ مثيرة للجدل، فلم يعد العلماء يقبلون فكرة تمركز وظيفة الهدم فوق الأذن اليمنى، أما فكرة تمركز الوظائف التنفيذية في دوائر معينة في الدماغ هي افتراض أساسي في علم الأعصاب السائد.
وكان لعلم فِراسة الدماغ في القرن التاسع عشر نصيبه من النقد التجريبي، واحتدمت النقاشات حول الوظائف الموجودة، وأين تكمن، وما إذا كانت قياسات الجمجمة طريقة موثوقة لمعرفة ما يحدث في الدماغ، ومع ذلك جاء النقد التجريبي الأكثر تأثيرًا في علم فِراسة الدماغ القديم من دراسات الطبيب الفرنسي جان بيير فلورنس (Jean Pierre Flourens) القائمة على إتلاف أدمغة الأرانب والحمام، والتي استنتج منها أن الوظائف العقلية موزعة وليست مُتمركزة (وقد فقدت هذه النتائج مصداقيتها لاحقًا) ولعل معرفتنا بأن علم فِراسة الدماغ قد رُفض لأسباب لم يعد يقبلها معظم المراقبين المعاصرين، يجعل من الصعب معرفة الهدف من وصف علم فراسة الدماغ اليوم بالنقطة السوداء في تاريخ البشرية.
انُتقد علم فِراسة الدماغ القديم والحديث لأساليبه الملتوية، ففي دراسة حديثة في علم الجريمة باستعمال الذكاء الاصطناعي، جُمعت البيانات من مصدرين مختلفين تمامًا؛ وهي صور مُدانين وصور غير مُدانين أُخذت من المواقع الإلكترونية المخصصة للبحث عن فرص عمل، وهذا بحد ذاته يفسر قدرة الخوارزمية على رصد الفروقات بين المجموعتين، وفي مقدمة جديدة لهذه الدراسة أيضًا أقر الباحثون بأن النظر إلى جميع إدانات المحكمة على أنها جرائم كان خطأً جسيمًا، ولكنهم نظروا إليه على أنه خطأً تجريبي؛ إذ أن استعمال صور المتهمين الذين أُدينوا سابقًا وعدم استعمال صور المتهمين الذين لم يُدانوا تحيز إحصائي، وصرّح الباحثون بأنهم كانوا في حيرة شديدة من غضب العامّة من دراستهم التي تهدف "لأغراض أكاديمية بحتة".
وتجدر الإشارة إلى أن الباحثين لم يتطرقوا إلى أن الإدانة تعتمد كثيرًا على آراء الشرطة والقضاة وهيئة المحلفين عن المتهم، وهي ما يجعل المظهر" الإجرامي" للشخص متغيرًا مربكًا، كما لم يشيروا للعوامل المؤثرة في دقة البيانات مثل: تكثيف الشرطة في مجتمعات معينة وعدم المساواة في فرص الحصول على التمثيل القانوني، وفي ردهم على الانتقادات لم يتراجع الباحثون عن افتراضهم بأن "للمجرم مجموعة من السمات الشخصية غير الطبيعية (الشاذة)". فيفترضون أن الإجرام سمة فطرية عند بعض الناس، وليس ردًا على للأوضاع الاجتماعية مثل: الفقر أو التعرض للعنف، وهذا ما يشكك في صحة البيانات من الناحية التجريبية، ذلك أن الحكم على شخص بأنه "مجرم" يندر أن يكون حكمًا محايدًا.
من أقوى الاعتراضات الأخلاقية على استعمال تقنية التعرف على الوجوه للكشف عن المجرمين هو تشويهها سمعة من يعانون من تسلط الشرطة عليهم، ,يرى الباحثون أنه ينبغي ألا تستعمل تقنية التعرف على الوجوه لغرض تطبيق القانون، ولكنهم يستشهدون فقط بالحجج الإحصائية حول سبب عدم نشرها، ويدرك الباحثون أن نسبة الخطأ تقدر بنحو (50 في المئة) والتي تعد نسبة عالية، ولكنهم مع ذلك لا يُعيرون انتباهًا لما يعنيه ذلك من الناحية الإنسانية، وتعود هذه النسبة غالبًا إلى أفراد لهم ملامح تشبه ملامح مدانين سابقين، وبالنظر إلى التحيزات العرقية وغيرها من التحيزات الموجودة في نظام العدالة الجنائية، فمن المتوقع أن تؤدي هذه الخوارزميات إلى المبالغة في تقدير نسبة الإجرام في المجتمعات المهمشة.
يبدو أن أكثر سؤال يثير الجدل هو ما إذا كان من المنصف إعادة إحياء علم فِراسة الدماغ لمجرد إخضاعه "لأغراض أكاديمية بحته"، قد يعترض أحدهم مستندًا على الأسس التجريبية، بقوله إن علماء تحديد النسل مثل: جالتون ولومبروزو قد فشلوا فشلاً ذريعًا في تحديد ملامح الوجه التي تهيئ الشخص للإجرام، وذلك لانتفاء الروابط بينهما أساسًا، وكذلك فعل علماء النفس الذين يدرسون العلاقة بين الوراثة والذكاء، فتعاملوا بسرعة وإهمال مع بياناتهم لإنشاء علاقة بين حجم الجمجمة والعرق ومستوى الذكاء، ومنهم سايرل بيرت (Cyril Burt) وفيليب روشتن (Philippe Rushton)، ولو كان هناك ما يمكن اكتشافه في هذا المجال لما عاد كل من حاول سابقًا خالي الوفاض.
المشكلة هنا هي ليست بأن محاولات إعادة إحياء علم فِراسة الدماغ باءت بالفشل، فقد سبق وتعرض الباحثون في نظرية الانصهار البارد للنقد لقاء إصرارهم على إثباته رغم الإجماع العلمي على عدم إمكانية وجوده، كون تجاربهم عُدت كملاحقة مخلوقات خيالية لا وجود لها، لكن هذا النقد لا يصل إلى حد الازدراء، ففي أسوأ الحالات يُنظر للباحثين في الانصهار البارد على أنهم يضيعون أوقاتهم فحسب، ولكن تكمن المفارقة بين أبحاث الانصهار البارد وتقنية التعرف على ملامح الوجه بأن الأضرار المترتبة على الأولى محدودة للغاية. ولذلك يطالب بعض الخبراء بضرورة الحد من نطاق استعمال تقنية التعرف على الوجوه لكثرة أضرارها، في أغلب استعمالاتها، إذ يصعب تبرير أي محاولة لإحياء مشروعٍ لا جدوى منه بدافع الفضول فحسب لاسيما عندما لا يهدف هذا المشروع إلا لدعم الهياكل الاستعمارية والطبقية، كما أنه لا يقيس إلا العنصرية المتأصلة في هذه الهياكل.
تسمية تقنية "التعرف على الوجوه" بـ " علم فِراسة الدماغ" بدون توضيح مخاطرها ليست الطريقة الأفضل للتعبير عن الاستياء منها، بل على العلماء أن يدركوا الأضرار الناجمة عن أبحاثهم ليؤدوا واجباتهم الأخلاقية بأمانة، ولعل توضيح مخاطر المجالات التي يُطلق عليها مسمى "علم فِراسة الدماغ" سيكون له أثر إيجابي واضح بدلاً من إطلاق هذا المسمى على وجه الازدراء فقط.