السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:10 صباحاً
ترجمة: سجى الغامدي، ريم الشريف، غدير الرشيدي، فاطمة عبدالعزيز، ضي الشمري.
كينسي كوبريدريس، عالم متخصص في العلوم الإدراكية.
إذا كانت بداية الّلغة إيماءات حول نار مخيم وإشارات سرية أثناء الصيد، فلماذا سيطر الكلام على التواصل؟
يقول البعض أن الّلغة تطورت من ضوء النار، حين كان أسلافنا يتشاركون القصص في جوف الليل، ويقول آخرون أنها بدأت من مناغاة الأطفال أو تقليد نداء الحيوانات أو شهقات المفاجأة، ويقول تشارلز داروين أنّ الّلغة بدأت بمقطوعات من أغنية، ويقول نعوم تشومسكي أنّ الّلغة كانت مجرد صدفة غريبة نتيجة طفرة جينية.
تكثر الآراء حول أصول اللّغة، ولا عجب من ذلك، فاللّغة أعجوبة تميز قدراتنا عن باقي الكائنات، فالأمر لا يتطلب سوى أن أحرك لساني وأسناني وشفتيً حركات بسيطة لأقدم لك فكرة جديدة، أو أنقلك إلى مكان آخر أو أصيبك بالقشعريرة، ويبدو أن الإنسان يمكنه مشاركة أي فكرة يفكر فيها عبر نفخة من الهواء، اوقد ُطلق على شرح كيف بدأ هذا العلم ”أصعب مشكلة في مجال العلوم“ وهو أمر لا يقاوم البحث فيه إلا قلة من الناس، فقد بحث فيه اللغويون وعلماء الأعصاب والفلاسفة وعلماء الثدييات، ناهيك عن الروائيين والمؤرخين.
وعلى مدى هذا التاريخ الطويل والزاهي، صمدت فكرة واحدة، ألا وهي فكرة أن اللغة بدأت بإيماءة، فما نفعله الآن باللسان والأسنان والشفتين، قد فعلناه بالأذرع والأيدي والأصابع في الأصل، ولمئات الآلاف من السنين أو ربما أطول، فإن أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ أتقنوا ”لغة بدائية“ إيمائية، وتتجلى هذه الفكرة في بعض الكتابات المبكرة حول تطور اللغة، وقد شاعت اليوم كما شاعت دائمًا، ولكن حتى مع زيادة شعبية نظرية ”الإيماءات أولًا“ إلا أنها تنكشف نقطة ضعفها الرئيسة التي يرى البعض أنها خلل فادح.
يظن المؤيدون الأوائل لفكرة ”الإيماءات أولًا“ أن التواصل الجسدي بدائي، فتخيل إتيان بونو دي كونديلاك (Étienne Bonnot de Condillac) في مقالة عن أصل المعرفة الإنسانية (1746) صبيًا وفتاة يكافحان وحدهما بعد طوفان لاختراع اللّغة من جديد، ووصف كيف أن الصبي الذي أراد الحصول على شيء بعيد المنال ”حرك رأسه وذراعيه وجميع أجزاء جسده“ وكأنه يحاول الحصول عليه ففهمت الفتاة الرسالة، وبالطبع يمكن رؤية مشهد مثل هذا بسهولة اليوم، مثل طفلة تقف على كرسي مرتفع وتنحني اتجاه لعبة بعيدة عن متناول يدها، ويرى كونديلاك وغيره من المفكرين الأوائل أن جزءًا من الهالة البدائية حول الإيماءات ينشأ من ملاحظة أن الإيماءة تسبق الكلام في مرحلة الطفولة، فقبل أن يتمكن الأطفال من الكلام فإنهم يشيرون ويومئون ويلوحون ويتوسلون، ومن المنطقي أن يتبع تطور اللغة في جنسنا البشري التسلسل نفسه.
دافع علماء الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر عن النظريات المستندة على فرضية "الإيماءات أولاً" على نطاق واسع، مستشهدين بحجج بديهية أخرى، فلاحظ جاريك ماليري ) (Garrick Malleryالذي يرى الإيماءة على أنها من "بقايا حقبة ما قبل التاريخ"، أن إنشاء إشارات يدوية جديدة وقابلة للتفسير أسهل بكثير من الإشارات الصوتية، فكتب في عام 1882 ”تخيل أن رجل الكهف أتقن تقليد أصوات الطبيعة القليلة بينما استطاع بالإشارة أن يعبر عن الأفعال والحركات والمواقف والأشكال والأبعاد والاتجاهات والمسافات وتوابعها ونظائرها“. أي أن الإشارة بالإيماءات أبين ولها علاقة واضحة بما تعنيه، وقد أُثبتت هذه الملاحظة منذ ذلك الحين في التجارب المعملية، ولا تزال من أكثر الحجج تأييدًا للغة الإيمائية البدائية.
في القرن العشرين تمسك العلماء بهذه الحجج البديهية عن نظريات الإيماءات، وقدموا أيضًا أدلة جديدة، لا سيما المفكر جوردون هيوز(Gordon Hewes ) عالم الأنثروبولوجيا في جامعة كولورادو، إذ كان واسع الاطلاع وشديد الولع بالأسئلة عن أصول اللغة، و في عام 1975 نشر قائمة مراجع تضم 11000 مرجعًا عن هذا الموضوع، لكن مقالته ”تواصل الرئيسيات (أعلى رتب الحيوانات الثديية) وأصل لغة الإيماء“ (1973) تعدّ بداية حقبة جديدة في نظريات ”الإيماءات أولًا“.
وقد أسهمت المقالة في تأصيل فكرة النظر بتمعن في ميول الرئيسيات التواصلية، ففي العقود السابقة أُجريت عدة محاولات لمعرفة ما إذا كانت القردة قادرة على تعلم لغة الإنسان، وفي إحدى المحاولات، فتبنى زوجان شمبانزيًا صغيرًا تدعى فيكي (Viki)، وعاملوها كطفل بشري، وعندما بلغت ثلاث سنوات، ظهرت لديها بعض الميول البشرية، فكانت تحب لعبة بناء الأبراج واللعب بالهاتف ورفع السماعة إلى أذنها، ولكن الزوجان لاحظا أنها ”نادرًا ما تقول فيهما شيئًا“ ويقال إنها نطقت بثلاث كلمات فقط وهي ”بابا“ و”كأس“ ومع شيء من المساعدة في تشكيل فمها صارت تقول ”ماما“.
يبدو أن اللغة الصوتية تعذرت على القردة، بخلاف الإيماءات، فقد أجرى زوجان آخران تجربة تربية منزلية مماثلة مع شمبانزي آخر يُدعى واشو (Washoe)، لكنهما استعملا إشارات يدوية مستعارة من لغة الإشارة الأمريكية بدلًا من الكلمات الإنجليزية، وقد تفوقت قدرات واشو اللغوية على قدرات فيكي، فقد أتقن في النهاية حوالي 350 إشارة، ولكن بالطبع ليس مماثلًا لمستوى البشر، وبدون أي تطور نحوي ولكنه مع ذلك مثير للإعجاب، وقد تحققت نجاحات مماثلة في الدراسات اللاحقة التي تُعلّم الإشارات للقردة الأخرى كالغوريلا كوكو، وإنسان الغاب شانتك.
تبدو الأيدي مقارنة بالفم تربة خصبة لبذور اللغة.
كما اعتمد هيوز على الفهم الناشئ عن تواصل الرئيسيات في البرية، وأشار إلى أن أصوات الرئيسيات لا إرادية إلى حد كبير، وليست موجهة إلى جمهور معين، وليست سوى ”فرضيات“، وبالمقارنة، بدت إيماءات الرئيسيات أكثر ثراءً، ومع قلة البيانات المتاحة لهيوز، إلا أن المدة التي قضاها في العمل هناك أكّدت حدسه، فالشمبانزي يستعمل مجموعة إيماءات أكثر من الأصوات، ويبدو أنه يستعملها إراديًا، فمثلًا تستعمل فصيلة البونوبوس (Bonobos) إيماءة ”تعال إلى هنا“ وتراقب رد الجمهور، وإذا لم تحصل على الرد الذي تريده، تعيد الكرّة، ويبدو أن الشمبانزي تتحكم إراديًا بأصواتها، فترتبط أصوات القرود ارتباطًا قويًا بالسياق النمطي، ولكن إيماءاتها أقل ارتباطًا.
ونستخلص من ملاحظات طريقة تواصل الرئيسيات أن إيماءات القردة لا تجمع كل السمات المميزة للغة البشرية، بل هي بعيدة عنها، وتبدو الأيدي مقارنة بالفم تربة خصبة لبذور اللغة. إن محور المناقشات المعاصرة لتطور اللّغة هي فكرة أن سلفنا الأخير يشترك مع الشمبانزي، وهو نوع منقرض ربما من 5 إلى 10 ملايين سنة، وبالنظر إلى ما نعرفه عن الرئيسيات اليوم، يمكننا أن نؤكد أن هذا السلف كان يمتلك قدرات إيمائية وصوتية تشبه إلى حدٍ كبيرٍ قدرات الشمبانزي في عصرنا الحديث، مما يعني أن أيدي أسلافنا كانت مهيأة للتواصل أكثر من فمها، وكما قال هيوز في عام 1973 كانت الوسيلة اليدوية ”أقل خطوط المقاومة البيولوجية“
واصل هيوز تأييد نظريات “الإيماءة أولًا" في الثمانينيات، وكان يُظهر من حين إلى آخر أدلة جديدة، وفي إحدى أوراقه العلمية لفت الانتباه إلى سمة بشرية لم يفهمها إلا القلة، وهي أن راحة اليد والأظافر أفتح من الجلد المحاط بها، ويكون هذا التباين أكثر وضوحًا في ذوي البشرة الداكنة وعندما يسمَرّ كثيرًا ذوي البشرة الفاتحة، وليس في الرئيسيات الأخرى (تصبغ راحة اليد) هذا، وهذا ما تحقق منه هيوز بنفسه عند زيارته لحدائق الحيوان، وتنبأ بأن هذه السمة البشرية الفريدة قد ظهرت فينا نحن البشر وتطورت لتزيد إيماءاتنا وضوحًا، ويبدو أن هيوز كان يتخيل مشهدًا حول موقد قديم، يرى فيه وميض أيدي بعض رواة القصص في عصور ما قبل التاريخ على ضوء النار.
في العقود التي تلت هيوز شاعت نظريات الإيماءات، فنشر رواد العلوم المعرفية تحديثاتهم في أبرز الأماكن، فما كان يُسمى في الماضي نظرية "الإيماءات أولًا" تعد واحدة من من المقترحات ذات الصلة، ويؤكد أحد الفروع أن الإيماءات المبكرة تكونت في الأصل من "حركات إيحائية"، وهي إيماءات واضحة تصور وتشبه ما تعنيه، ويفترض فرع آخر أن الإشارة بالإصبع هي على الأرجح أول الإيماءات التي استعملت، مستشهدًا بحقيقة أنها أول ما يكتسبه الأطفال.
ولعل هذه الشعبية المتزايدة ليست مفاجئة، فعندما نجمع أفضل الحجج الداعمة لنظريات "الإيماءات أولًا"، ونضعهم جنبًا إلى جنب، تصبح الصورة مقنعة بالفعل، فالإيماءة تظهر قبل الكلام في حياة الأطفال، والوسيلة اليدوية تبدو متفوقة في تكوين إشارات ذات معنًى واضح، وسلفنا الأخير المشترك مع الشمبانزي كان على الأرجح لديه الأدوات اللازمة لإنشاء نظام متطور من الإشارات اليدوية لا الصوتية. بالإضافة أيضًا إلى الدليل الرئيسي وهو لغات الإشارة المعاصرة. ومع قوة ودقة اللغات المنطوقة، إلا أن أنظمة الإشارة تُظهر لنا أن الصوت ليس الوسيلة الوحيدة الملائمة لقدرتنا البشرية الأكثر تميزًا.
والآن نتطرق إلى المشكلة وهي أن الكلام أصبح اليوم هو السائد، ولا يزال البشر يستعملون الإيماءات ولكنها مكمّل ثانوي، فمع استعمالهم لغة الإشارة إلا أنهم يفضلون الحديث عندما يكونون خارج مجتمعات الصم، لذا فإن كانت اللغة قد بدأت بالفعل باستعمال الأيدي ثم في مرحلة ما لاحقة انتقلت إلى الفم (التحدث)، فإنّ السؤال المحير هنا هو، لماذا؟ ففي القرن الثامن عشر أدرك كونديلاك صعوبة هذه المشكلة، فكتب ”مع أن لغة الإشارة كانت في تلك المرحلة طبيعية جدًا إلا أن التغلب عليها كان عقبة كبيرة، إذ كيف يمكن التخلي عنها والانتقال إلى لغة أخرى لا تعرف مزاياها بعد“ وهو ما يُشار إليه الآن بمشكلة ”تغير الطريقة“، ومما يحسب لهيوز إقراره بتلك المشكلة، ما جعل كل مؤيدي نظرية ”الإيماءات أولاٌ“ يتطرقون لها، فهل يمكن تفسير انتقال اللغة من اليد إلى الفم؟
يرى البعض أن الإجابة المختصرة هي لا، أما باحثة علم لغة الإشارة كارين إيموري (Karen Emmorey )في جامعة ولاية سان دييغو فزعمت أن مجرد وجود أنظمة الإشارات التي تعد أيضًا نظامًا لغويًا كاملًا ومعقدًا مثل الأنظمة المنطوقة تُضعف فكرة أصل اللغة الإيمائي، وعللت ذلك بأنه إذا كانت اللغة قد بدأت أولًا باستعمال الأيدي فليس ثمة سبب مقنع لاختفائها، وبالتالي لا بد أنها كانت منطوقة منذ البداية، وتوصل عالم اللغة النفسي الهولندي بيم ليفلت (Pim Levelt) إلى استنتاج مماثل، واصفًا نظريات الإيماءات بأنها ”مفهوم خاطئ“ و”مضيعة للوقت“، فكتب في عام 2004 أن مرور البشر بمرحلة الإيماءات سيكون أشبه بـ”بناء سيارة وذلك ببناء سفينة أولًا ثم إزالة الشراع ووضع الهيكل على العجلات، ثم إضافة محرك احتراق“.
أما وقد تبينت الدلائل، فإن نظريات ”الإيماءات أولًا“ تحتاج الآن إلى تفسير لانتقال الّلغة من اليد إلى الفم، ويحتاج هذا التفسير إلى عدة أجزاء، أُود أن أتخيل تغير الطريقة كرحلة ملحمية بطلها اللغة التي مضى عليها مئات الآلاف من السنين، وكما هو الحال مع أي رحلة، سيحتاج البطل إلى سبب للذهاب، ووسيلة للوصول إلى وجهته، ولماذا وكيف، وسنناقش هذين الجزأين على التوالي.
لنتناول أولًا سبب الذهاب، غالبًا ما تتخذ المناظرات حول سبب ترك استعمال الأيدي شُكَل سجل النتائج وهو عبارة عن حصر للمزايا التي يتميز بها الكلام على الإيماءة، وكثيرًا ما يقال إن الميزة الأولى هي أن الكلام مجرد، فعلاقة الكلمات المنطوقة غالبًا بما تعنيه علاقة عشوائية تمامًا، فكلمة ”شجرة“ لا تشبه الشكل المادي للشجرة، أما الأشكال المرئية مثل الإيماءات فليست عشوائية بهذه الطريقة، وهو ما يجعلها تعيق الفكرة المعنوية، لكن هذه الحجة خادعة، إذ يمكن تحفيز حركات اليد كما رأينا، وهذه إحدى مزاياها، ويمكن أن تكون عشوائية أيضًا تمامًا مثل الكلمات المنطوقة، كما يظهر في إيماءة ”السلام“، وفي اللافتات المبهمة التي لا تعد ولا تحصى في لغات الإشارة.
للكلام سمة رئيسية واحدة يصعب تجاهلها وهي أنه لا يتطلب إلا القليل من الجهد.
وكما قال ليفيلت الميزة المفترضة الثانية هي أن الكلام أفضل في الظلام ”حيث تظل الإيماءة ميتة وظيفيًا بمعدل 12 ساعة في اليوم“، وقد يكون هذا من قبيل المبالغة، وتشير إيموري إلى أن مستعملي لغة الإشارة المعاصرين يتعايشون دون مشاكل تُذكر، حتى في الإضاءة الخافتة، ويمكنهم استعمال أسلوب اللمس للإشارة، أي التواصل عن طريق التلامس عند الحاجة، فعلى الأرجح أن أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ لم يقضوا ساعات طويلة مستيقظين في الظلام الدامس، وإنما استعملوا النار للدفء والطهي والإضاءة، والحماية من الحيوانات المفترسة، ومن المؤكد أن حركات اليد يمكن رؤيتها في ضوء النار بغض النظر عن علاقة هذا بما ذكره هيويز عن تصبغ راحة اليد.
ومن مزايا الكلام أنه يفرغ الأيدي لأنشطة أخرى، لكن هذا الرأي متسرع، إذ لا يبدو أن مستخدمي لغة الإشارة يواجهون مشكلة كبيرة في هذا الأمر، فقد يستعملون عند الضرورة يدًا واحدة للإشارة، ومع أننا نعتقد أن معظم الإيماءات تكون باستعمال اليدين، إلا أنه يمكن الإشارة بتحريك الرأس والوجه للتأكيد والاستجابة، وتستمر قائمة مزايا الكلام المفترضة، ولكن هذا النوع من التفكير المسمى بـ ”مرآة الرؤية الخلفية“ متزعزع بطبيعته: إذ تنص على النتيجة ثم تندفع لتفسيرها، وفي هذا يقول تيكومسيه فيتش (Tecumseh Fitch)، مؤلف دراسة استقصائية موثوقة لبحث تطور اللغة، أنه يمكننا أيضًا التوصل بسهولة إلى مزايا الإيماءات، فمثلًا الإيماءات أكثر سرية من الكلام، فيمكن استعمالها أثناء الصيد لئلا تنتبه الفريسة، أو حول النار لئلا تنتبه الحيوانات المفترسة، حيث أن الإيماءات إشارة مُوجّهة أكثر، بخلاف الطبيعة الإذاعية للكلام، كما أنها مناسبة للبيئة الصاخبة، ومناسبة عند تناول الطعام لأن التحدث أثناء تناول الطعام يشكل خطر الاختناق، ويبدأ هنا سجل النتائج بالتكافؤ.
ولكن للكلام سمة رئيسية واحدة يصعب تجاهلها وهي أنه لا يتطلب إلا القليل من الجهد، فوُجد أن حرق السعرات الحرارية أثناء الكلام ضئيل جدًا وذلك لأن الحركات التي نقوم بها طفيفة، ولأن الكلمات المنطوقة غالبًا ما تعيق أنفاسنا، فيمكن اعتبار الكلام طريقة لإعادة تدوير نفايات كثيرة كالهواء لأنه يغادر الجسم، فحسب تقديرات فيتش، هذا لا يعني أن الإشارة أو الإيماءة جهد رياضي أو شاق بأي وسيلة، لكنها بالتأكيد أكثر كلفة من الكلام من حيث الحجم على الأقل.
هل وجود فرق بسيط في السعرات الحرارية شيء مهم حقًا؟ قد لا يتوقع أحدنا ذلك، ولكنه كذلك، فالكسل من أقوى العوامل في تشكيل السلوك البشري ولاسيما سلوك التواصل البشري، وقد حددت دراسة اللغة مجموعة من القوانين ومنها ما يُعرف باسم ”مبدأ الجهد الأقل“ ويشرح هذا المبدأ سبب قصر الكلمات التي نستعملها أكثر من غيرها كما يشرح سبب اختصار إشارات لغة الإشارة بمرور الوقت، ويشرح سبب استعمالنا للاختصارات والألقاب، بل حتى الحيوانات تميل للتواصل الفعال، فضلًا عن قدامى البشر.
إذن من المنطقي أن كفاءة طاقة الكلام قد أجبرت أجيالًا عديدة على الانتقال من الإيماءات إلى النطق، وقد يكون ذلك هو السبب ولكن ماذا عن الكيفية؟ وما الطريق الذي سلكته القدرة لصنع المعنى الذي تطور في عضوٍ واحد ليتحول إلى عضوٍ آخر، في منتصف الجسد؟ يبدأ التفسير المحتمل من منطلق فضول تشريحي وهو تلازم اليد والفم لدى البشر، فيبدو أن ثمة رابط قوي وخفي بين هذين العضوين والذي يمكننا أن نصفه بجسر غير مرئي انتقلت اللغة عبره.
أول دليل على اقتران اليد والفم يظهر مبكرًا، ففي الرحم تمتص الأجنة إبهامها في أغلب الأحيان، وبعد الولادة بفترة وجيزة وحتى حوالي عمر خمسة أشهر يظهر ما يسمى بـ "رد بابكين" ((Babkin reflex فعند الضغط على راحة يد الطفل يُخرج الطفل لسانه، والدليل الآخر يأتي من العقل، فمن المعروف أن المناطق العصبية التي تتحكم في حركات الفم قريبة جدا بشكل غريب من المناطق التي تتحكم في حركات اليد مما دفع البعض إلى افتراض وجود دائرة تحكم مشتركة للعضوين، وتشير الدلائل الحديثة إلى أن هذه المناطق ليست فقط قريبة بل متداخلة، واكتشف الباحثون وجود إشارة كلامية من نشاط عصبي في ”مقبض اليد“ وهي المنطقة التي كان يُعتقد أنها مسؤولة عن حركات اليد كما يوحي اسمها.
ويمكن أيضًا ملاحظة الكفاءة النشطة للتحدث في السلوكيات اليومية، وقد لاحظ داروين أن ”الأطفال الذين يتعلمون الكتابة غالبًا ما يلفون ألسنتهم وهم يحركون أصابعهم بشكل غير مفهوم“ ومنذ ذلك الحين سجل عمل أطراف اللسان في العديد من الأنشطة، لا الكتابة فقط ولا عند الأطفال فحسب، فاشتهر نجم كرة السلة الأمريكي مايكل جوردان (Michael Jordan) بإخراج لسانه أثناء مراوغة اللاعبين أو رمي الكرة، وقد تلاحظ الشيء نفسه عند مراقبة شخص يخيط أو عندما يفتح هاتفه، وهذه السلوكيات ”الصغيرة“ ليست إلا نوع من السلوكيات يسمى ”التعاطف بين اليد والفم“ ويحدث نوع أدق عندما يستعمل الناس أيديهم ويصدرون صوتًا في الوقت نفسه، فمثلًا يصدر الأطفال بعمر سنة أصواتًا مختلفة عندما يمسكون جسمًا صغير مقارنةً بجسم كبير.
هل اقتران اليد والفم هذا إضافة حديثة إلى قائمة العادات البشرية الغريبة؟ على الأغلب لا، فالشمبانزي يُظهر سلوك التعاطف بين الفم واليد أيضًا، مما يشير إلى أن هذا ”الجسر غير مرئي“ كان على الأرجح موجودًا بالفعل في سلفنا المشترك، وهكذا تناولنا طريقًا وسببًا منطقيًا، لكن هذا بالطبع يترك المجال مفتوحًا لمسألة كيف بدت هذه الرحلة على طول هذا الجسر؟
بالطبع تظل أي تفاصيل وراء الأطفال والعقول واقتران اليد والفم تخمينية للغاية، لكن يتفق معظم العلماء على أن انتقال اللغة من اليد إلى الفم كان بطيئًا جدًا، ويؤكد الكثير الآن أن الانتقال لم يكن من نظام إيمائي فقط إلى نظام كلامي فقط، فهذا غير منطقي بالنظر إلى أنّ متحدثي اللغة اليوم يشيرون ويحركون أيديهم عند التحدث، كما يحرك مستخدمو لغة الإشارة أفواههم عند الإيماء، فالانتقال الذي نسعى لتفسيره كان انتقالًا من نظام كانت فيه الإيماءات قناة تواصلية أساسية وكان النطق فيه قناة ثانوية كالذي نراه في تواصل الشمبانزي اليوم، أي أننا نريد أن نشرح كيف صار للكلام اليد العليا.
نحتاج إلى أن نشرح سبب تلهفنا لإيصال معنى ما.
كانت التفسيرات المقترحة قليلة وخيالية، ففي مجلة العلوم (Science magazine) في عام 1944، أشار ريتشارد باجيت (Richard Paget ) إلى أن اللغة بدأت كإشارة يدوية لكنها قادرة للتحول الى كلام لأن حركات الفم تردد دون وعي حركات اليد، وكتب أنه عندما ”اعتزل الممثلون الرئيسيون (الأيدي) المسرح ... استبدلوا باللسان والشفاه والفك التي برعت بالفعل في فن التمثيل الإيمائي“ فكانت الفكرة أن الكلمات المنطوقة ظهرت لأول مرة على أنها أصداء مسموعة لا واعية للإيماءات اليدوية، وقد نُسي هذا الاقتراح كثيرًا وسُخر منه في بعض الأحيان، حتى وصفه فيتش في عام 2010 بأنه ”من أكثر الصروح هشاشة في هذا المجال“.
ولكن في العقد المنصرم، اكتسبت أفكار باجيت نظرة ثانية، ويعود ذلك إلى استمرار تزايد الأدلة على نظرية التعاطف بين اليد والفم من جهة، وإلى أن باحثي لغة الإشارة قد وصفوا مؤخرًا فئة من الإشارات تمثل بالضبط نوع العملية التي كان يعنيها باجيت من جهة أخرى، فلوحظ أن الفم نشط جدًا أثناء التواصل بالإشارة، وأحيانًا يحرك مستعملو لغة الإشارة أفواههم وفقًا للإشارة المستعملة، وأحيانًا يصدرون كلمات ظرفية، ولكن في أوقات أخرى تعكس أفواههم ببساطة جوانب من حركة اليد المتزامنة، وهو ما يُعرف الآن باسم ”علم صدى الصوتيات“ فمثلًا علامة ”صحيح“ في لغة الإشارة البريطانية تتضمن وضع يد واحدة أسفل الأخرى وإغلاق الفم في الوقت نفسه، وبالتالي فإن حركة اليدين لها صدى بحركة أصغر بكثير في الفم، إذا كنت ستضيف صوتًا معها فأضف حركة يد مميزة مع صوت مميز.
يبعد أن تنتقل اللغة من اليد إلى الفم بهذه الطريقة، إذ نحتاج إلى المزيد من العمل لوصف تفاصيل مسار هذا ”الصدى“ قبل أن نحكم على صحته ، لكن هذه مجرد نقطة انطلاق، والهدف من المرحلة التالية من نظريات الإيماءات هو تطوير وتنقيح نماذج لعملية "التصغير" التدريجية، وهو شق طويل تبنى فيه البشر تدريجيًا نوعًا محكمًا من السلوك التواصلي، وفي مرحلة ما من هذا العمل كان بروز الإيماءات والصوت قد انقلب، فتحول الكلام إلى قناة اساسية وبقيت الإيماءة قناة ثانوية، فأصبحنا ما نحن عليه اليوم.
إن وصولنا إلى ما نحن عليه يعد في الواقع نقطة قوة لنظريات الإيماءات، ومنذ هيويز واجه منظرو ”الإيماءات أولًا“ عبئًا كبيرًا لإثبات وشرح سبب وكيفية التحول، ولكن على منظري ”الكلام أولًا“ عبء أيضًا وإن كان نادرًا ما يعترف به، فلابد لأي نظرية من نظريات ”الكلام أولًا“ أن تفسر كيف تطور الكلام، ولماذا وكيف أصبح التحدث عالميًا وفي كل مكان وتلقائيًا مع الإيماءات، ويمكن تسميتها بمشكلة ”إضافة الطريقة“.
لا يعني هذا أن نظرية ”الإيماءات أولًا“ قد سادت، بل العكس تمامًا، لكننا نريد أن نقول أولًا أن ”الخلل الهادم“ المزعوم في نظريات الإيماءات قد يُثبت في النهاية أنه مجرد جرح سطحي، وثانيًا أن لنظريات ”التحدث أولًا“ مشاكلها الخاصة، وفي النهاية ليست الأسئلة عن الطريقة إلا الطبقة الأولى من اللغز الأكبر لأصول اللّغة، حتى لو تمكنا من وضع صيغة لفرضية ”الإيماءات أولًا“ على أنها ليست مجرد فكرة معقولة بل مرجحة، فقد ييكون هناك العديد من الطبقات التي يجب التعامل معها، ونود أيضًا أن نفهم كيف استطعنا قراءة العقول الأخرى وتسلسل الأفكار ودمجها وتصور المفاهيم المجردة مثل ”الغد“ و”الحقيقة“ وسنحتاج إلى أن نشرح ما إذا كنا ننقل المعنى أولًا باليد أم بالفم، ولماذا نتلهف لإيصال معنى ما؟ هذا التعقيد متعدد الطبقات هو ما يجعل تطور اللغة ”أصعب مشكلات العلم“ وأغمضها.