السبت , 18 يناير 2025 - 18 رجب 1446 هـ 12:00 صباحاً
إن من المُجْحِف أن نقول عن الإنسان أنه ذو تكوين صغير، فلا يحق لأحد ذلك إلا الله، فحجم الإنسان لا يمكن مقارنته بشيء. لقد خُلِــقَ الإنسان بأجزاء متنوعة ومختلفة، أكثر مما يملك العالم من أجزاء. ولو أن هذه الأجزاء وُسِّعت وامتدّت، لأصبح الإنسان أكثر اتّساعًا من الأرض، ولغطّى بكيانه الأرض وفاقها حجمًا. وما العالم بحجمه الكبير إلا كما القزم عند عملقة الإنسان، بل خريطة مصغرة لعولمته، فإذا امتدت أوردة أجسادنا فستتكون الأنهار وأوتارها إلى أنفاق ممتدة، وعضلاتها المتداخلة ببعضها كسلسلة الجبال الراسية، وما العظام إلا محاجر صخرية، وقد تستمر المقارنة بين جميع أجزاء جسم الإنسان بما يقابلها من سطح الأرض، فسماء الأرض ضئيلة بحجمها لهذا الجُرُم الإنسانيّ ليدور فيه، فلا يسع لدورانه إلا سماء الجنة. لأجل ذلك لا تملك الأرض سؤالاً إلا وقابله جوابٌ من الإنسان. نرى قدرة ارتباط الإنسان بالأرض، ولكننا لا نرى قدرة الأرض على الارتباط بالإنسان.
فلتوسّع أفق تأملك وتفكيرك فيه، لتدرك عظمة صنيع هذا التكوين الإنساني، فصنيعنا هي أفكارنا، هناك من خُلقَ عملاقاً بحجمه، وهناك من يحلق شرقاً وغرباً، من الأرض إلى الجنة، فمخلوقات الله تتخطى البحار واليابسة، بل تعبر الشمس وصولاً الى الجنة في وقت واحد؛ فقدرة الله، ماثلةٌ في المخلوقات جميعاً.
سِرٌ، لا يمكن تفسيره! فأنا .. صانع الأفكار، محكوم عليّ بسجن مؤبد، بفراش المرض أقبع. فمن صنائعي وأفكاري، من مع الشمس تحاكيها تارة، وتارة تتجاوزها، تتخطاها وتعبرها بسرعة وبخطىً ثابتة وفي كل مكان.
وكما هو الحال في العالم الآخر، عالم المخلوقات المفترسة؛ الشياطين والأفاعي، ومخلوقاتٍ خبيثة وحقودة، الديدان واليسروع، كلها مخلوقات تسعى إلى افتراس هذا العالم الذي احتضنها.
وهناك أيضًا، الأمراض التي اجتمعت، ثمّ تعقدت، ثمّ تكونت إلى أنواع عدة، فهذا العالم، عالم الأمراض والعلل، وضع أمراضه بجميع أنواعها في أجسادنا: الأمراض السامة والمعدية، اضطرابات التغذية والهُزال، المتشعب والمعقد منها، والتي تأتي من أسباب مختلفة. فهل بإمكان العالم الآخر، تسمية العديد من الأمراض السامة، والمتلفة؟ وهل يمكنه أيضًا تسمية العديد من مخلوقاته المفترسة كما نفعل نحن مع أمراضِنا؟
ولكن معنا هرقل، الذي يُقاتل ضد هذه الوحوش المفترسة؛ معنا الطبيب!. الذي يجمع كل الإمكانيات من العالم الآخر ليمد يد العون، ويساعدنا على الشفاء. يبقى الطبيب طبيباً، ومعه يبقى الإنسانُ إنساناً. وفي هذه الحلقة بينهما، يصغر حجمنا، نغرق في كرامتنا احتراماً لكل الكائنات البائسة التي تداوي نفسها بنفسها.
فحيوان الظبي مثلاً، ذاك المخلوق المناضل الجريح، يستطيع خداع مخلوق مفترس حتى يخرج ما بجعبته من سم، أو الكلب الذي هجم على هذا المخلوق المفترس، نراه يستسلم للمرض والسم، إلا أنه يعلم في قرارة نفسه بأي عُشبة يمكنه معالجة نفسه. وعندما نقول عن الصيدلانيّ بأنه أقرب المخلوقات للإنسان، نرى الشبه واضحاً وجلياً. لكننا في الوقت ذاته، لا نرى وجه الشبه بين الطبيب والصيدلانيّ، فكلاهما مخلوق مُختلف عن الآخر.
أما الإنسان؛ فهو خلاف الطبيب والصيدلانيّ، ليست لديه غريزة فطرية لشفاء نفسه من الأمراض. فالإنسان ليس بصيدلانيّ نفسه أو طبيبها. لذلك، استدع تأملك مرة أخرى وأحضره، تفكر وقلّ: ماذا سيحدث للإنسان إذا صغر حجمه وقل اعتماده على نفسه وقلّة فائدته؟ ماذا سيحدث لمعنوياته العالية، وبُعْدِ نظره؟ عندما يجر ذاته إلى قبر الجهل وعدم التفكير؟ فالإنسان يعرف أسقامه، لكن لا يعرف كيف يداويها، قد يملك أدويتها في منزله، ولكن لابد له من استدعاء الطبيب.