الإثنين , 19 أبريل 2021 - 7 رمضان 1442 هـ 5:36 مساءً
- مراجعة النص: منار الصلتية.
"إن صراع الإنسان ضد السلطة هو ذاته صراع الذاكرة ضد النسيان."
– ميلان كونديرا
في الواحد من إبريل عام 2019 م، بلغ ميلان كونديرا التسعين عامًا، وعمله يتمركز حول موضوع قوة النسيان أو فقدان الذاكرة التاريخي الذي يشكل بنية أساسية لأهم نظرياته. ولقد نشأ هذا العمل العظيم لكونديرا إثر معاناة عايشها في مناخ واقعي أثناء ضم السوفييت لوطنه السابق تشيكوسلوفيكا عام 1948 م إبان حكم النظام الشيوعي والعملية الممنهجة للمحو التاريخي المتعمد للتشيك.
وكما قال ميلان كونديرا: إن أول خطوة لاستئصال شعب ما، هي أن تشل ذاكرته التاريخية وتدمر كتبه وثقافته وتاريخه، ومن ثم تصنع ثقافة جديدة وتلفّق تاريخًا آخرًا غير تاريخه، حينها سينسى هذا الشعب من يكون وماذا كان حتى تندثر معالمه، ومن ثم سينساه العالم من حوله بسرعة.
قرأت كتاب كونديرا، الضحك والنسيان (1979)، لأول مرة عام 1987م عندما كنتُ عضوًا في الحزب الشيوعي البريطاني، فشكّل الكتاب حينها هزة شائكة لكل المعتقدات التي تبنيتها وعلى إثره أصبحت كتابات كونديرا بالنسبة لي جزءًا من تكوين الحقيقة التي هزّت الاتحاد السوفييتي بشدّة عام 1989م.
ففي التسعينات، كنا نعتقد أننا نعيش عصر تشريح الجثث والهياكل الذي تتعرى فيه جميع خفايا مقابر القرن العشرين وتحلل فظائعها الوحشية وتستخلص منها العبر، "حتى لا ننسى". وكنا نعتقد أيضًا أننا في الوقت الذي نقف فيه على عتبة حلم السيليكون فالي (منطقة في الولايات المتحدة الأمريكية) الحلم المتمثل في رقمنة جميع المعارف سواء كانت كلمة مكتوبة أو منطوقة من التاريخ بكامله من أجل أن نعيش تحت أسقف مكتبة حرة لامحدودة داخل بيت زجاجي من الحقيقة في أسوار قرية عالمية تتدفق فيها المعلومات؛ وسيكون المستقبل وقتًا لإحياء الذكرى اللامتناهية والمعرفة العظيمة.
كم كنا واهمين! فالبيت الزجاجي انقلب مرآة انعكاسية، والقرية العالمية التي نعيش فيها انهارت نتيجة حروب معلوماتية تحزبية حتى إن المكتبة اللامتناهية أصبحت أرضًا تتقاتل عليها نظريات المؤامرة، في حين أصبح الإنترنت أداة للنسيان وليس للذكرى، وموضوع فقدان الذاكرة هو ما كرّس كونديرا حياته للحفاظ عليه، ولاسيما أهوال الشيوعية.
إن محور الموضوع هذا مقتبس من أولى صفحات كتاب الضحك والنسيان الذي يصف فيه كونديرا لحظة تساقط الثلج في براغ عام 1948م حيث كان غوتوالد يتحدث مع الشعب على الشرفة وبجانبه يقف كليمانتس وفي لحظتها بدأ الثلج يتساقط، وكان غوتوالد عاري الرأس فنزع كليمانتس قبعته ووضعها بعناية على رأس غوتوالد.
وبعد ذلك بأربع سنوات اتهم كليمانتس بالخيانة فشُنق؛ لذا محت حملات البروباغندا الدعائية أثره من التاريخ ومن كل الصور الفوتوغرافية أيضًا.
ومنذ تلك اللحظة أصبح غوتوالد يقف على الشرفة وحيدًا ولم يعد يملأ مكان كليمانتس سوى حائط القصر الفارغ. والذكرى الوحيدة التي تبقت لغوتوالد من كليمانتس هي القبعة التي على هامته.
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ظهرت الحقائق التي تبين حقيقة سقوط الأنظمة الشيوعية في روسيا وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية وبلغاريا وهنغاريا وألبانيا ورومانيا وبولندا. ويتمثل تفشي الفساد وتراكم الديون في انتهاك الحقوق الإنسانية في المعتقلات السياسية والملاجئ وإخفاء المقابر الجماعية وكل ما يُجرى على البشر من تجارب غير قانونية وأنظمة المراقبة السرية والاغتيالات والمجاعات الجماعية وكل دليل قاطع يؤكد حقيقة فشل البلدان ذات "الاقتصاد المخطط". بالإضافة إلى استخدام المعلومات التضليلية ومصادرة حرية التعبير وإعادة كتابة التاريخ، إذ كانت العملية الممنهجة تمحو الخصوم بإبادتهم ثم تزيل آثار وجودهم من كتب التاريخ. فيما مضى من تسعينات القرن الماضي، كُشفت معلومات مخفية عن حقيقة الإبادة الجماعية التي ارتكبها ستالين في أوكرانيا عام (1923-1933)، وبعدها ارتكب رئيس جمهورية الصين، ماو، إبادة جماعية بشعة جدًا أذهلت العالم. بل إن الأساليب التي استخدمتها الأنظمة الشيوعية لتصنع فقدان الذاكرة التاريخية قد كُشفت أيضًا.
ولفترة وجيزة، كان ثمة إجماع على فشل الأنظمة الشيوعية، "لن يحدث هذا مجددًا" قالها الحداثيون والمؤرخون وقالها الاقتصاديون والأحزاب السياسية وقالتها شعوب الدول الشيوعية السابقة.
وبعد مرور عشرين عامًا بسرعة نسوا ما قالوه؛ إذ طرحت صحيفة وول ستريت في عام 2016 سؤالًا: "هل الشيوعية رائعة؟ اسأل الألفيين". ونشرت صحيفة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في العام الماضي كتاب "الشيوعية للأطفال" كما دعت مجلة Teen Vogue إلى الدفاع الشديد عن الشيوعية. ونشرت مجلة تابلت، بشيء من القلق مقالًا بعنوان "عودة الطفل الشيوعي الرائع"، وعلى تويتر ظهر أناس يعرفون عن أنفسهم بأسماء مثل "جوثي الشيوعي" و"متحوّل شيوعي" و"عاهرة شيوعية" و"بيئي شيوعي". وظهر شعار المطرقة والمنجل مجددًا في الجامعات وأثناء الاحتجاجات وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
كيف نسينا؟
كشف استطلاع للرأي أجراه منتدى الثقافة الجديدة في المملكة المتحدة عام 2015م أن 70% من البريطانيين ممن هم دون الرابعة والعشرين لم يسمعوا مطلقًا بزعيم الحزب الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ، كما أن 10% من بين ال 30% الذين عرفوه لم يربطوا اسمه بالجرائم الوحشية، وقد كان النظام الشيوعي للرئيس مسؤولًا عن مقتل ما بين 30 إلى 70 مليون صيني وعليه صنّف بأكبر مرتكب للإبادة الجماعية في القرن العشرين إذ إن جرمه فاق جرم ستالين وهتلر.
وأحد أسباب عدم انتشار خبر الإبادة الجماعية التي ارتكبها ماو -على نطاق واسع- هو أنها معقدة وتشمل فترتين على مدى سبع سنوات. كما أن المعلومات على شبكة الإنترنت أقرب إلى أن تكون قصصًا مبسطة سريعة القراءة. وحين يكون هناك حقائق موضع جدال، فإننا نميل إلى تجاهل القضية برمتها، لذا فالغموض يكتنف حقيقة ما إذا كان الحزب الشيوعي مسؤولًا عن مقتل 30 أو 50 أو 70 مليون شخص مما جعل مستخدمي الإنترنت يكفون عن الاهتمام بالموضوع.
تتمثل الطريقة المنطقية للتعامل مع التقديرات المتضاربة لعدد القتلى في الإبادة الجماعية في النظر إلى كلا الاتجاهين، فحتى في المصادر الموالية للشيوعية فإن ماو مسؤولًا عن مقتل 30 مليون على أقل تقدير، في حين توحي المصادر المعادية أن العدد كان قرابة 70 مليون قتيل. إذن، نستنتج أن عدد القتلى كان ما بين 30 إلى 70 مليون قتيل، ففي نهاية المطاف، فإن الحد الأدنى من عدد القتلى يفوق قتلى ستالين وهتلر.
ومع ذلك، لا تحدث هذه العملية المنطقية، بل إن ردة فعلنا عند مصادفة مثل هذه البيانات المتباينة تشبه ردة فعلنا عند مصادفة صفحة من ويكيبيديا مكتوب عليها هذا التنبيه: "موضوعية هذه المقالة موضع خلاف"؛ فضعف الحجة وقلة الثقة غالبة. لذا، لا يحتاج المدافعين عن ماو إلى الإدلاء بأي حجة؛ لأن العدد الذي قتله ليس صفرًا، ولكنه صفر الأهمية.
يمكن التلاعب باللامبالاة الناجمة عن الصراع لأغراض سياسية، ونلاحظ هذا في الطريقة التي يفصح فيها الشيوعيون الجدد عن موقفهم؛ إذ إنهم لا يعترضون على البيانات المتعلقة بعدد وفيات القرن العشرين المرتبطة بأيديولوجيتهم. وبدلاً من ذلك، يزعمون أن البيانات متضاربة وأن أي شخص يجزم بصحة مجموعة واحدة من البيانات لديه مصلحة شخصية في ادعائه، إذ لا توجد بيانات موثوقة. وعليه، تمكنوا من محو 30-70 مليون حالة وفاة من التاريخ.
يتعذر تأكيد البيانات حول الإبادة الجماعية الشيوعية إلى حد ما بسبب محو الأنظمة الشيوعية لسجلات الدولة. فمثلًا أكبر إبادة جماعية في تاريخ البشرية هي المجاعة الصينية الكبرى (1958–62). وحتى اليوم، لا يوجد أي اعتراف رسمي من الحكومة الصينية الشيوعية فيما يخص هذه الإبادة الجماعية. فمنذ أربعين عامًا وهذه المأساة التاريخية تُنكر، وهناك 100 نصب تذكاري للمجاعة الإيرلندية في حين أن التذكار الوحيد للمجاعة الصينية الكبرى حتى يومنا هذا هو نصب يدوي مصنوع من الطوب والقرميد، ويقع وسط حقل مزارع صيني.
وإلى أن تصل بيانات الوفيات في الصين الشيوعية إلى اتفاق وإلى أن تدخل كُتب التاريخ ستبقى البيانات المتضاربة تستخدم لإخفاء فظاعة الجرائم التي ارتكبها ماو، وهذه الحادثة شبيهة بالإبادة الجماعية الأوكرانية المعروفة باسم هولودومور (1932-1933)، إذ يتسع الجدال بين مجموعات سياسية مختلفة فيما يتعلق بعدد القتلى ما إذا كان عددهم ثلاثة ملايين أو 10ملايين، مما يفسح المجال لمجموعات أخرى على الإنترنت أن تُنكر الحادثة برمتها.
إن محو الحقائق في هذا الوقت ليس بإخفائها، وإنما بإدراج معلومات متضاربة تختلف عن الأصل لتبدأ بعدها الحرب المعلوماتية. فينجم فقدان الذاكرة التاريخي هذا عن الحمل المتزايد لهذه البيانات.
الإشكالية ليست في فقد المعلومات، بل في فقدان السجلات التي تبين الفاعل والقائل في التاريخ تحت ضجيج من الادعاءات المخالفة. وفي العشر السنوات الماضية، رأينا هذا في الاتهام الموجه لميلان كونديرا، حين اتهم بأنه كان مخبرًا شيوعيًا وعميلًا مزدوجًا وأن عمله الأدبي بأسره كان نتاج شعوره بالذنب إثر خيانته لصديقه التشيكي من أجل الشيوعية.
يؤدي التشويش في الروايات حول كونديرا والإفراط فيها، إلى تجاهل المؤلف تمامًا بسبب اللامبالاة الناجمة عن الصراع. ولقد تآكلت بالفعل سمعته، فلن نعرف أبدًا ما إذا كان ما قاله دفاعًا عن نفسه صحيحًا، لذا يجب ألا نثق في أي شيء قاله أو كتبه، حتى لوائح اتهامه ضد الشيوعية، وحتى نظرياته حول فقدان الذاكرة التاريخي باعتباره وسيلة ترويجية للشيوعية. وكل هذا قد يكون طي النسيان أيضًا.
كي تتخلص من عدوك -في هذا الوقت- ليس عليك إيجاد دليل دامغ ضده، بل عليك الاستعانة بالإنترنت لرفع اتهامات متضاربة ضده ومعلومات متناقضة، فهذا التشويش يولد الكره والخوف حتى يُحظر ذلك العدو من الإنترنت، أو تعاد كتابة تاريخه أو يمحى من عقول الملايين من خلال اللامبالاة الناجمة عن الصراع.
وكما قال كونديرا إنّه إذا كان صراع الإنسان هو صراع الذاكرة ضد النسيان، ففي صخب الإنترنت آلة واسعة للنسيان. آلة تبني مجتمعًا جديدًا على رمال ضحلة ومتحركة من فقدان الذاكرة التاريخي.